مهمة الخرائط الفكرية الأساسية هي تمييز الذات من الآخر ورسم جغرافيا وعلاقات قائمة على هذا التمييز. مهمة الضيافة في المقابل إعادة فتح مكان الذات للآخر لكي يصبح "البيت بيته" و"المحل محله". الضيافة هنا تذكير بما هو أولوي على تلك الخرائط. الخرائط مدفوعة بمشاغل السياسة والاقتصاد والتنظيمات المترتبة عليها، بينما الضيافة مشغولة بالأخلاق. لإيضاح هذه الفكرة دعونا نستخدم هذا المثال: في غرفة الطوارئ في المستشفى تدخل حالة إسعاف جديدة. المتواجدون في غرفة الطوارئ من أهل المستشفى لهم اهتمامات مختلفة، فبعضهم مشغول بتحديد هوية المريض، وبعضهم مشغول بتحديد طريقة دفع مصاريف علاجه، وهناك من هو مشغول فقط بعلاجه وإنقاذه. الأخير هذا هو الأقرب لمنطق الضيافة فهو مشغول بالواجب الأخلاقي تجاه هذا الإنسان الذي يطلب منه الإسعاف حالا. هذه المهمة لها الأولوية عنده على ما عداها. المضيف مشغول بضيافة ضيفه، بينما عسكري الحدود مشغول بهوية هذا الضيف وإقامته، بينما الاقتصادي مشغول بالقيمة الاقتصادية التي يمكن أن يقدمها هذا الإنسان. لهذا يمكن أن نفهم لماذا حاول الفيلسوف المهم "إيمانويل كانت" جعل الضيافة واحدة من الحقوق الأساسية للإنسان. الضيافة بالمعنى الكانتي تعني إتاحة المجال للغريب لأن يلتقي بأهل البلد وألا تعوق الحسابات السياسية والاقتصادية هذا اللقاء. الضيافة بهذا المعنى ليست إلزاما على أحد، ولكن فتح المجال للضيافة حق مكفول للناس، سواء المضيف أو الضيف. لنتخيل هنا الأذى القاسي الذي سيشعر به الإنسان المضياف لو تم منعه من استقبال الضيوف. هذا المنع يكاد يصل إلى حرمانه من الشكل الأهم لوجوده في الحياة. 

بهذا المعنى فالضيافة هي عمل بالاتجاه المعاكس لعمل الخرائط الفكرية. الخرائط الفكرية تعمل بشكل أساسي على التأكيد على الفرق بين الذات والآخر وتسعى لإبراز أهمية ذلك الفرق. في المقابل فإن الضيافة عمل باتجاه قبول الآخر بغض النظر عن التشابه والاختلاف معه. بل إن الاختلاف يزيد من أولية الضيافة، ففي منطق الضيافة يعتبر الغريب أحق بواجب الضيافة من القريب. حين أزور أمي قادما من أميركا فهي لا تعتبرني ضيفا باعتبار القرابة. حين تدعو الناس إلى وليمة الاستقبال تقول "ماعندنا ضيف... ماغير ولدي عبدالله جاي من أمريكا". الضيافة مكانة محفوظة للغريب والأجنبي.

كذلك حين تحتفي الخرائط الفكرية بالمشتركات بين أفرادها كأساس للهوية الذاتية فإن هوية المضيف تتأسس من خلال الآخر. الخرائط الفكرية وما تقوم عليه من هويات دينية وعرقية ووطنية تؤكد على هوية ذاتية مستقلة، وفي أحيان كثيرة على هوية ذاتية تقوم على التنافي مع الآخر. الضيافة في المقابل تؤسس لهوية تشاركية. الضيف هنا مؤسس لهوية المضيف. لذا يعلم أهل الضيافة أن الضيافة لا تبدأ بالباب المفتوح ولا بترحيبة الاستقبال، ولكنها تبدأ قبل ذلك بتوجه الضيف لمضيفه. هذا التوجه يحمل في طياته ثقة عظيمة تعتبر في منطق الضيافة كنزا عظيما. الضيافة تبدأ هنا في ثقة الآخر بالذات. كذلك على مستوى منزل الذات فإنه لا يكتمل معناه في ضمير المضيف إلا بدخول الآخر له واستقباله للضيوف. حينها يصبح للبيت ذاكرة وتاريخ. لا شيء يبهج المضيف مثل تذكيره بثقة الضيوف فيه، لذا نفهم تكرار مدح المضيف بأنه "منصى" ووجهة للآخرين.

حين تدهورت الأوضاع في عدد من دول الشرق الأوسط وبدأ كثير من سكان هذه الدول في البحث عن ملجأ ومعين في أوروبا وغيرها، بدأت مفردة الضيافة في الحضور المكثف في تلك المناطق. ما نشاهده هنا هو فشل لخرائط وطنية لم تعد قادرة على جمع أفرادها بشكل عادل وآمن، وفي حالة الفشل في تكوين الذات يبحث الناس عما يجمعهم مع الآخر. الضيافة هي أفضل حالة يحضر باسمها الآخر في المكان الجديد. الضيافة لا تعني فقط السماح بوجود الآخر، بل تعني كذلك أن تكون الذات في مهمة رعاية الآخر وحماية آخريته. الذات هنا تُمارس بعدها الجوهري في الوجود من أجل الآخر. الضيافة هنا تعمل كالمستشفى المخصص للإنقاذ حين تفشل الأجهزة البيولوجية في العمل. الضيافة مهمتها إنقاذ البشر حين تفشل مؤسساتهم الاجتماعية الذاتية في رعايتهم. بهذا المعنى فالضيافة طاقة أخلاقية هائلة تذيب كل الخلافات والفروق بين الذات والآخر. هذه الخلافات والفروق تعززها في كثير من الأحيان الخرائط الفكرية التي تشتغل على تقسيم الناس لجماعات متنافرة. الضيافة تقوم بتذكيرنا أن كل تلك الفروق لا تهم أمام حقيقة أن الآخر هنا، وأن الذات لا تعيش في دائرة خاصة مغلقة، بل تعيش كذلك مع ولأجل الآخر. بهذا المعنى فإن الضيافة مثلها مثل المعاني الغيرية الأخرى، كالحرمان والعطف والتعاون، تغيب عن عين القوي الطاغي، وتحضر أمام عين الضعيف المحتاج. المضيف رغم أنه في موقع القوة فهو صاحب البيت وصاحب القدرة على المساعدة، لا تغيب عن عينه قيمة الوجود من أجل الآخر. كل عمل المضيف هو تخلٍ عن سلطته وتعزيز لقوة ضيفه. هذه العملية تبدأ بالتخلي عن أحقية فلترة دخول الضيوف من خلال الباب المفتوح، وبالتخلي عن الملكية الحصرية للمكان من خلال تعبير "البيت بيتك والمحل محلك".