أخيرا، وبعد ثمانية أشهر على تشكيل البرلمان العراقي، تم الإعلان عن انتخاب جلال طالباني مجددا، لرئاسة الجمهورية، ونوري المالكي لرئاسة الحكومة. وجاء ذلك بعد لقاء للكتل السياسية المتصارعة على السلطة، بدعوة من رئيس منطقة الحكم الذاتي في كردستان، مسعود البرزاني، تم عقده في مدينة أربيل قبل يومين من اجتماع البرلمان الذي تمخضت عنه النتائج الأخيرة.

الموضوع الذي نناقشه في هذا الحديث، له علاقة مباشرة بجو التفاؤل، الذي عممته بعض الصحف والقنوات الفضائية، من أن العراق بدأ يتلمس طريقه نحو الأمن والاستقرار. وأن تشكيل الحكومة المرتقبة، سيكون بداية مرحلة جديدة في تاريخ العراق. هل فعلا نحن أمام مرحلة جديدة مغايرة لما شهده العراق، خلال ما يقرب من سبع سنوات ونصف هي عمر الاحتلال؟ وهل صحيح أن أزمة العراق السياسية قد تم تجاوزها؟.

أول ما يلفت انتباهنا ونحن نتصدى للإجابة على السؤالين السابقين، هو ما تمخضت عنه التسوية الأخيرة من نتائج. وهي انتخاب طالباني لرئاسة الجمهورية، والمالكي لرئاسة الحكومة. ذلك يعني ببساطة، أن ما جرى هو تكريس للسلطة السابقة، التي عجزت عن مواجهة حالة التردي والانهيار فيما بين النهرين، طيلة السنوات المنصرمة. بما يعني أننا لسنا أمام نقلة نوعية، باتجاه معالجة الأوضاع السائدة.

إن أي معالجة جدية للأزمة السياسية المستعصية في أرض السواد، تتطلب تغيير الوسائل والأدوات. والمواطن العراقي، الذي شهد طيلة السنوات الماضية، كيف يتم القتل على الهوية، وكيف مارست الحكومة التي يرأسها المالكي النهج الطائفي وعمليات التهجير، والفصل بين السكان، على أساس الانتماء المذهبي، لن يكون في وضع يسمح له بالثقة في ذات العناصر التي حرضت على تسعير الفتنة، وأسهمت ميليشياتها في عمليات القتل.

وإذا ما تركنا موقف المعارضة الوطنية للاحتلال جانبا، رغم قوة ثقل حضورها في صناعة تاريخ ما بعد الاحتلال، وذلك ما سنأتي عليه لاحقا، فإن القوى التي تواطأت مع الاحتلال، منذ لحظة سقوط بغداد، هي الأخرى غير متجانسة، ومنقسمة في ولاءاتها بين أمريكا وإيران. والصراع فيما بينها بلغ حدا، أصبح معه التراجع عن المواقف، بعد أن عمد بالدم أقرب إلى المستحيل. ووفقا لما سرب من وثائق سرية صادرة عن البنتاجون، وأيضا تصريحات شخصيات قيادية في القائمة العراقية، هناك اتهامات واضحة للمالكي بالتخطيط لاغتيال علاوي، بعد تصاعد الخلافات بين الكتلة العراقية التي يقودها الأخير، وبين كتلة دولة القانون التي يقودها رئيس الحكومة.

وكان ما حدث في جلسة البرلمان الأخيرة، هو التجسيد الحقيقي لحالة الصراع، حيث حصل في تلك الجلسة ما وصفته القائمة العراقية، بالانقلاب على اتفاق أربيل، الذي قضى بتقاسم السلطة بين الكتلتين الرئيسيتين الفائزتين بالانتخاب، ومقابلة الاستحقاقات الدستورية. وقد اتهم طالباني والمالكي بالتخطيط لذلك الانقلاب.

في هذا السياق، اعتبر زعيم "القائمة العراقية" إياد علاوي في مقابلة له مع محطة "سي. إن. إن" التلفزيونية الأمريكية هذا الأسبوع أن اتفاق اقتسام السلطة قد انتهى"، ورجح أن يشهد العراق "توترات وأعمال عنف". كما اتهمت المتحدثة باسم العراقية ميسون الدملوجي في حديث لصحيفة الوطن السعودية "أطرافا متنفذة بعرقلة توسيع قاعدة المشاركة بالعملية السياسية".

وطالبت القائمة العراقية بتفعيل وثيقة الاتفاق الثلاثي التي وقعت بين المالكي وعلاوي وبارزاني مؤخرا. وأكد القيادي في العراقية شاكر كتاب تفهم قادة القائمة ومنهم علاوي وطارق الهاشمي بضرورة إقرار تنفيذ ما ورد في الوثيقة، لا سيما ما يتعلق بإجراءات اجتثاث حزب البعث. وشدد عضو العراقية محمد سلمان على حاجة قائمته لضمانات دولية لإلزام الكتل النيابية بتنفيذ الاتفاق السياسي، الذي تحقق في ضوء مفاوضات تشكيل الحكومة، في إطار مبادرة بارزاني.

لقد حدث اجتماع أربيل، بعد وقت قصير من مبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، التي دعا فيها مختلف الكتل العراقية للاجتماع بالعاصمة الرياض، للتوصل إلى حل متوازن، يضمن الخروج من الأزمة السياسية المحتدمة، بين هذه الكتل. ويضع العراق على الجادة الصحيحة، بعيدا عن التدخلات الإقليمية في شؤونه. وكان انعقاد الاجتماع في أربيل، بالسرعة التي تم بها، والنتائج التي توصل لها، اختطافا عمليا لتلك المبادرة. لذا جاءت قرارات اجتماع أربيل وتوصياته مكرسة للأزمة، بدلا من أن تسهم في حلها.

بالنسبة لقراءتنا للأزمة السياسية التي يمر بها العراق الآن، لن يكون كافيا أن تقتصر القراءة على الصراع بين القوى المرتبطة بالعملية السياسية، التي جرت بتخطيط ورعاية الاحتلال وتوجيهه. فالأزمة أعمق من ذلك بكثير. ولا يمكن استيعابها إن لم يتم ربطها مباشرة، بالاحتلال وتدمير الدولة الوطنية، وبالتداعيات التي تسبب فيها الاحتلال. وبذات الدرجة، يصعب فهم مسببات الأزمة، إن لم تتم قراءتها ضمن سياق مفردات العملية السياسية الهادفة لتفتيت العراق، والمستندة على قسمة المناصب الحكومية والثروة بين الكتل المتصارعة، على أسس المحاصصات الطائفية والإثنية، وما يستتبعه ذلك من غياب أي معنى لما تفرزه صناديق الاقتراع، وبالتالي عدمية الاحتكام إلى مفهوم الانتخاب. لقد كان البديل عن ذلك هو سيادة ما يمكن أن نطلق عليه مجازا، وإن بشكل غير دقيق، بديموقراطية التوافق.

وضمن المعطيات الراهنة، ثمة إشكالات كبيرة، تواجه أية محاولة سياسية، للخروج من الأزمة. فالقوى المرتبطة بالعملية السياسية، على اختلاف مساربها، هي موضع شبهة من قبل العراقيين، كونها ساهمت مع المحتل في نحر العراق. وساندت المشاريع المشبوهة التي تضمر الشر للأمة. وهي في الموقع الذي اختارته لنفسها، تتخلى عن شرط من الشروط الجوهرية لقيام الدولة الحديثة، المتمثل في السيادة والاستقلال، وكلاهما من العناصر اللازمة لتأسيس الدولة في العصر الحديث.

إن أهم عناصر المشروعية لأية سلطة سياسية هي قدرتها في الدفاع عن حدود بلادها، والتصدي للعدوان الخارجي، فكيف يغدو الأمر، إذا كانت هذه السلطة نفسها نتاج العدوان والاحتلال. إنها في هذه الحالة تكون مفتقرة لأية مشروعية، وبالتالي تصبح عاجزة عن مواجهة الأزمات والمخاطر التي تحدق بها وبالبلد الذي تهيمن على مقدراته. وتبقى إجابة سؤال: هل انتهت الأزمة السياسية في العراق، بحاجة إلى المزيد من التأصيل والتحليل في الحديث القادم بإذن الله.