كان الاختلاف الثقافي، وما يزال، واحدا من أهم القضايا في العصر الحديث، حتى صار حقا ثقافيا لبقية الشعوب بعد هيمنة الحداثة، والدفاع عن الاختلافات الثقافية بين الشعوب يفترض قبولا في كافة أشكال الاختلاف، حتى تلك التي لا يمكن قبولها عند غالبية الشعوب، وربما تجاوز الأمر إلى أبعد مما يتصور الإنسان من تحقيق قيمة المختلف في أحقيته بالاختلاف، وهذا ظاهر بوضوح في الثقافة الغربية التي ربما لا تتوافق في بعض قيمها مع ثقافتنا الشرقية التي تحتفي بالتماثل أكثر من الاختلاف.
ولعل من اهتمام الثقافة الغربية الحديثة في قيمة الاختلاف، أن جعلت الحقوق للمختلف ظاهرة بشكل غير مقبول أحيانا عند غيرها، كقبول الاختلاف الجنسي في المثلية مثلا، وهي وإن كانت مستهجنة في الثقافة الشرقية، أو بعض الثقافات الغربية أيضا بحكم محافظتها، إلا أنها تنخرط ضمن مفهوم الاختلاف وتحقيقه بوصفه قضية محورية في بعض الدول الغربية، وهنا تكمن أزمة تحقيق الاختلاف لدى الثقافات الشرقية المحافظة التي ربما كان الاختلاف مقلقا لها على ثقافتها بأنها تتعدى مناطق محظورة كثيرا، لكن تبقى القضية ذات أهمية فيما دون ذلك، لأن الاختلاف الثقافي أصيل حتى داخل الثقافة الواحدة، وعلى ذلك ليس من قبيل المستهجن قبول التعددية الثقافية في المجتمعات الشرقية، لأن طبيعة ثقافتها مختلفة بين مجتمع إلى آخر، حتى لدى الثقافة العربية التي تتعدد مذاهبها وأعراقها وأشكال ثقافتها من بلد إلى آخر.
والصديق الكاتب عبدالله المطيري، يطرح مؤخرا قضية مهمة، وهي مفهوم الهوية العربية، وكيف أنه من الصعب وضع لفظة العربية على كافة شعوب الشرق الأوسط، لأن بعض سكانه من الأمازيغ، أو الأكراد، أو الأفارقة الذين سيكون من الظلم عليهم وصفهم بالعربية، مع اعتزازهم بعرقهم غير العربي، ويجادل حول ذلك كثيرا، وأجدني أوافقهُ على رأيه، فاختلاف الثقافات حق من حقوق الشعوب المختلفة في هذا الفضاء الإنساني العام، إذ يكون من الصعب الحديث عن ثقافة واحدة، فلكل شعب من الشعوب ثقافته التي يعتز بها، حتى وإن اختلفت كثيرا عن الثقافات التي يراها مهيمنة كالثقافة الغربية، لكن من جميل الصدف أن الثقافة الغربية هي من عززت هذا الاختلاف، فأصبح واحدا من أهم القضايا التي تطرحها أو تدافع عنها الفلسفات الحديثة بقوة، هي فلسفة الاختلاف، ومنها استفادت النظريات النقدية والاجتماعية لتطرحها كقضايا جديدة في الساحة، كي تعطي فرصة كبيرة للانفتاح على رؤى جديدة، وعلى تطبيقات أدبية واجتماعية مثيرة، وذات أهمية عالية؛ إضافة إلى الحق السياسي والشعبي في الاختلاف حتى صار ورقة سياسية في الانتخابات الديمقراطية، ولذلك فخسارة ترامب قد تكون محتملة في الانتخابات الأميركية حاليا، لأنه يميل إلى رفض الاختلاف.
النزعة نحو الاختلاف تعطي للثقافات المتعددة حق صنع حقيقتها الخاصة، والدفاع عن ثقافاتها وهويتها، والإشكالية يمكن أن تكون من تحقيق مفهوم الهوية داخل ثقافة توحيدية أو تماثلية التفكير، بمعنى أن حق الاختلاف قد يجعل البعض من المؤمنين بالتماثل والانغلاق على الهوية الخاصة، ينزعون إلى الهيمنة الثقافية على هويات الأفراد المختلفين داخل الثقافة الواحدة، بحكم أن الاختلاف يفترض اختلافا أيضا داخل الهوية الواحدة، وهذه فكرة تقوض مفهوم الهوية من أساسها، إذ يمكن أن تكون الهوية ركاما من هويات مختلفة: رأسيا وأفقيا، وتحتاج إلى أشبه ما يكون بالحفر المعرفي للوصول إلى الهوية الأصل، وهي الهوية الإنسانية، وهذا أمر يصعب فيه الوصول إلى نقطة واحدة متماثلة، وهو ما جعل داريوش شايغان يحذر من "وهم الهوية" كما يسميه، أو "أفخاخ الهوية" كما يسميها آلان تورين.
وهذا الأمر يقودنا إلى مفهوم أساسي، وهو مفهوم الحق الفردي المقدم على الحقوق العامة في حقوق الإنسان، بحيث تبقى إشكالية العام والخاص مطروحة، لكن شريطة ألا يهيمن الحق العام على الحق الخاص، أي أنه من المفيد أن تفهم تلك الهويات أو الثقافات المختلفة أن حقها في الحفاظ على هويتها لا يمكن أن يتعدى الحفاظ على الحرية الفردية للأشخاص، أو الحق الفردي المقدم عليها، بمعنى لا يمكن أن يطغى حق الثقافة على حق الفرد في الاختيار وتقرير المصير، وهي واحدة من الإشكاليات التي تواجه الداعين إلى الحفاظ على الهويات، بحيث يرفضون الحق الفردي للناس في اختيار سلوكياتهم وثقافتهم. فمثلا حينما يكون من عادات مجتمع ما الزواج من القاصرات، فإنه يتم رفضه حتى لو كان من أهم مقومات تلك الثقافة، لأن حق الطفل مقدم على حق الثقافة هنا، وتحجيب الطفلة يكون مستنكرا كذلك حتى لو كان من طبيعة الثقافة تحجيب البنات الصغيرات في عمر أقل من عشر سنوات، باعتباره تعديا على الطفولة، أو من جهة أخرى التعدي على حقوق المرأة وقمعها كمثال آخر، وهذا فيه جزء من رفض الهيمنة، أو رفض التسلط باسم الحفاظ على الهوية، وهو أسلوب قد يستخدمه البعض لقمع فكرة الاختلاف في الثقافة نفسها، لذلك يجري التنبيه عليه في الجدل الثقافي الحديث.
على ذلك، يكون حق الثقافة في تحقيق ثقافتها لاحقا على مسألة الحقوق الإنسانية، على اعتبار أن الحق الإنساني هو الأساس، بحيث يكون من اللازم ألا يعارضه الحق الثقافي للثقافة إذا كانت تعطي اعتبارات للحق الإنساني، لكن في حال قمع الحريات الشخصية، أو قمع الحقوق الأساسية، فيغلب أن تكون الحقوق الإنسانية هي المقدمة في هذه الحالة، فلا يمكن أن يتعدى الفرع على الأصل، فالهويات فرع من الأصل الإنساني، وهو ما اتفقت عليه غالبية الدول، فحقوق الإنسان عامة وليست خاصة في الثقافة الغربية. صحيح أنه لا يمكن جعل الحريات الخاصة غالبة على عمومية الثقافة، بحيث أن كثيرا من الثقافات لا تقبل الحريات الشخصية صريحة صراحة طافحة، كما هي في الغرب، وإلا أن المسألة نسبة وتناسب، والحقوق مختلفة بين الدول، لكن يبقى المبدأ الأساس هو محاولة تعزيز حضور الحق الإنساني في المجال العام.