نشأت كما نشأ غيري لا نرى من الرياضة غير كرة القدم، ولا نمارس سواها. وامتد هذا الأثر معي إلى أيام الدراسة في الجامعة، وحملته بعد ذلك إلى كندا أثناء سنوات الابتعاث في مدينة فانكوفر، حتى إني حين كنت أذهب إلى المراكز الاجتماعية الموجودة تقريباً في كل حي من الأحياء هناك، لم أكن أشترك إلا في ثلاثيات أو خماسيات كرة القدم، وكنت أتجاهل ما عداها من الرياضات. وعدت إلى أرض الوطن منذ عدة سنوات وعادت هذه الرياضة معي، لا أرضى عنها بديلاً. وحدث ما كنت أخشاه ويخشاه كل لاعب لكرة القدم، حدث أن أقعدتني ركبتي التي حيرت الأشعة المغناطيسية في معرفة سبب الانزلاق المتكرر، فمكثت حدود السنة أو أكثر وأنا أندب حظي في الكرة، وأحاول أن أقنع نفسي أنها مسألة وقت وسيلتئم شيءٌ ما وسأعود للعب مرة أخرى، لكن هذا لم يحدث! وحديثي عن كرة القدم هنا ليس حديث اللاعب المتمكن الذي يبحث عنه مدرب المنتخب السعودي لحل مشاكل الكرة السعودية، إنما حديث لاعب هاو لا تميز لديه غير محبة الركض. ومما زاد الأمر صعوبة عليّ بضعة كيلوجرامات حملتها من القعود، وجينات عندي تحب زيادة الدهون، فاضطررت أخيراً وأنا على مضض من التسجيل في أحد الأندية الرياضية القريبة من المنزل، وذهبت إلى هناك زحفاً! أقدم رجلا وأؤخر أخرى! ودفعت مبلغاً وقدره! (ولعل هذه هي السلبية الكبرى هنا!) ومرت أيامي في هذا النادي وإذا بي أفاجأ أني أقدمت على خطوة رائعة في حياتي لم أكن أتوقع أهميتها إلى هذا الحد، وأني أخوض تجربة جديدة تماماً، فيها مرح وتنوع ونشاط وحيوية، أصبحت أحب النادي، وأقحمت له وقتاً في جدولي اليومي، وغيرت أوقات وجباتي حتى لا تتداخل مع أوقات التدريب.
لقد فوجئت حين اكتشفت كيف يكون الإنسان أسيراً لتصورات مسبقة وآراء لا يرضى عنها بديلاً ولكن حين يعطي لنفسه بعضاً من التحرر والمرونة وضرورة التجريب والمشاهدة العلمية العملية فلربما تغيرت قناعاته وتصوراته رأساً على عقب! هذا ما حدث معي وأنا لا أرى لسنوات طويلة غير كرة القدم رياضة وحيدة! وهذا ما تألمت له وأنا أتذكر كم من المرات كنت أسخر مازحاً من عدد من الأصدقاء الذين يبدون إعجابهم بهذه الأندية الرياضية. ألا كم من الأوهام التي وصلت إلى درجة يقينيات تتحكم بنا؟
ولعل أشد ما أعجبني في هذه الحصص التدريبية هو أنك بانخراطك تحرك تقريباً جميع عضلات جسدك، وقد تعجب حين تقوم ببعض التمارين التي تشد عضلات في أماكن عدة في جسدك كانت لفترات طويلة مصدراً لآلام مبرحة ناشئة من قلة الرياضة والحركة، فتزول بهذه التمارين هذه الآلام وذاك الخمول، وتنتج من أثرها حيوية ونشاطاً ومرونة. أدركت كم كنت مجحفاً بحق جسدي وأنا مهمل بالتركيز فقط على عضلات القدم والساقين بالأساس ومغفلاً باقي الجسد! إنها طاقات كامنة معطلة تحتاج من يحركها ويستغلها وإلا سببت له الآلام والمشاكل! وكم هو مجحف في حق نفسه وإدارته ومجتمعه من يهمش الطاقات ولا يستغلها ولا يأبه أصلاً بوجودها بل هو غافل عنها جاهل بها! الحياة حركة، فمن لا يتحرك يموت أو يمرض!
وما أسعدني هو أني أخذت دروساً مفتوحة في ثقافة الإنجاز، بداية تحس أنك لا تستطيع أن تستمر في التمرين وأنك منهك قد انتهيت ويجب أن تتوقف! ولكن من ومضة أمل تقول إنك تستطيع، ومن مشاهدة غيرك من العاملين المجتهدين، ومن صرخة تشجيع من مدرب حريص على الإنجاز، تمضي بإصرار وعزم جديد لعلك تكتشفه في نفسك لأول مرة! الدرس الآخر كان في التدرج والتخطيط السليم، تبدأ بسرعة بسيطة تشد عضلاتك وتنشط دورتك الدموية ثم تزيد نشاطك بدرجة محسوبة لفترة محدودة، فإذا انتهت زدت أكثر وما إن ينتهي الوقت الذي حددته لهذا التمرين حتى أنجزت ما أردت إنجازه (ركض 3 كيلومترات في 25 دقيقة مثلاً). ألا ما أحوجنا إلى ثقافة الإنجاز!
وليس صحيحاً أننا نحن السعوديين نخاف أو نخشى بعضنا البعض! كل من كان يحضر في النادي يبتدرك بالسلام، يبتسم، يبدؤك بالحديث، إنه جو حميمي، فيه ود واحترام وأدب. إذا حان وقت الصلاة اصطففنا في دقائق لنصلي جماعة، فلا نسمع أحداً يرفع صوته مذكراً ولا آخر منبهاً، وإنما بكل انسيابية وطواعية من طرفنا. هل نرى مثل هذه الأندية تلحق بالمساجد مثلاً؟ ومن قال إن المساجد على مدى تاريخ الحضارة الإسلامية كلها كانت مجرد دور عبادة فقط معزولة عن واقع الحياة؟ هل نرى (مساجد – مراكز اجتماعية) على شاكلة الموجود في العديد من المجتمعات الغربية والآسيوية فيها مكتبة الحي، وصالة الحي الرياضية، وصالة اجتماعات، فيها يعقد على سبيل المثال ناد للقراءة والكتاب أو دروس تقوية للطلاب من بعض مدرسي أو مدرسات الحي، أو دورة تدريبية طوعية عن مهارات الحاسب أو الرسم أو التصوير، بل إن فتيات الحي قد يتفقن على أن تعلمهن إحداهن مهارات الطبخ أو عمل الحلويات، أو لعل بعضاً من كبار السن يجلسون معاً في نادٍ خاص لهم ولأنشطتهم.....
ألا تباً للرياضة! تجعلك وأنت تمرن عضلات أكتافك وساقيك كأنك تمرن عضلات دماغك! فتأتيك أفكار وآراء مع تحسن معدل اللياقة لا تدري أين تذهب بها؟!