تتسارع الاتصالات والتحولات إلى حد أنها أصبحت أسرع من أن ترى أو تتابع، وكلما كانت الأمور غامضة وغير واضحة تصبح أكثر نضوجا. هكذا هي السياسات الكبرى نعرفها بعد وقوعها وتبقى تقديراتنا في دائرة الافتراضات التي قد تصح في بعض الأحيان، وهذا ما نحن عليه الآن من تحولات حتمية، لأن الواقع الذي نعيشه لم يعد يشكل خطرا على مجتمعاتنا وحدها، بل أصبح باعتراف الجميع يهدد استقرار الجميع بدون استثناء إقليميا ودوليا، وهنا يجب ألا نتوغل كثيراً في كيف حدث هذا الأمر أو ذاك، أو الحديث عن المخططات والمؤامرات والتي قد تكون صحيحة إلا أنها تجعلنا ننظر إلى الوراء، في حين أن مصلحتنا هي في معرفة ما نحن عليه وإلى أين نحن ذاهبون.

إنه أمر غاية في الوضوح والغموض في آن، أي أننا نرى التحركات الكبرى والاجتماعات والتنقلات لكبار المسؤولين الدوليين والإقليميين ونستمع إلى التصريحات المبسطة والحديث عن تحالفات وتفاهمات وخلافات وعن أهداف مشتركة، لكننا لا نستطيع أن نعرف حقيقة هذه التحولات وأحجامها ومضامينها إلا بعد أن تصبح واقعا أمامنا، وربما من حيث لم نكن نتوقعها، إلا أن ما نعرفه جيدا هو أن أدوات النزاع الصغرى التي تعمل على إبقاء الميادين مشتعلة ولا قيمة لها عندما تتدخل القوى العظمى، لا، بل تكون هذه الأدوات هي أولى ضحايا الاتفاقات الكبرى.

يشعر الصغار في نزاعاتهم الآن بشيء من اليأس والغدر ويحاول كل فريق منهم أن يذكّر بتضحياته وإخلاصه مع هذا الفريق أو ذاك، إلا أنهم يدركون جميعا أن زمن العصابات والميليشيات قد ولى ومعه بقايا أنظمة الفساد والخراب في سورية واليمن وليبيا والعراق، وأنه قد تم استخدامهم وقودا لإنضاج تسويات ومنظومات جديدة تخدم مصالح الكبار على حساب أدوات النزاع الصغيرة، وهذا درس قديم جديد.

لا نستطيع أن نحدد الاتجاه الذي ستأخذه الأحداث في المنطقة، لكننا بالتأكيد قد غادرنا ما كنا عليه خلال السنوات الخمس الماضية، أي منذ بداية 2011 حتى الآن، وهذا لا يعني بأننا مسلوبو الإرادة ولا نستطيع القيام بما يخدم مصالحنا الوطنية والعربية، بل العكس هو الصحيح، لأنه الوقت المناسب لتحديد الأولويات التي علينا العمل عليها والتحديات التي يجب أن نواجهها، وهنا تأتي أهمية التحولات الإستراتيجية لدى عدد من الدول العربية، كالسعودية والمغرب ومصر وإمارة أبوظبي في إستراتيجيات 2030.

إن المرحلة الفاصلة بين ما كنا عليه وما يجب أن نكون عليه، تتطلب الكثير من الحكمة المؤقتة لعبور المراحل الانتقالية بشيء من الصبر الإستراتيجي والتكيف مع المتغيرات التي ستحدث، وحسن التعامل مع الوقائع الجديدة بما يخدم الاستقرار، وضرورة الابتعاد عن المراجعات وردات الفعل الغوغائية، بما يخدم أهداف المتسببين في إشعال النزاعات، وخصوصاً من دول الجوار التي أظهرت العداء لمجتمعاتنا العربية وتسببت بقتل مئات الألوف وتشريد الملايين من بيوتهم ومدنهم وقراهم.

إن مرحلة إعادة بناء الاستقرار والسلم الأهلي في الدول العربية المأزومة عملية بالغة الأهمية، وهي لا تحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد، لأننا عرفنا هذه التجربة في لبنان بعد اتفاق الطائف وعملية إعادة الإعمار التي رعتها الدول العربية وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، وحققت نجاحاً كبيراً وغير مسبوق وأعادت لبنان إلى سابق عهده في الازدهار والأمان، فتم اعتراضها بالاغتيالات والعمليات الأمنية، ورغم ذلك لا تزال صامدة حتى الآن. إن المجتمعات العربية المأزومة الآن لا يمكن أن تعالج إلا باتفاقات كالطائف وتجربة لبنان.

إن حجم الأكلاف التي تسببت به هذه الموجة المدمرة على كل الشعوب العربية وبدون استثناء كانت كبيرة جداً، بدءاً من دول النزاع التي فقدت استقرارها ووحدتها الوطنية وتفكك دولها ودمار عمرانها بالإضافة إلى الضحايا واللاجئين، وكذلك الأمر بالنسبة لدول الاستقرار العربي التي تحملت أعباء مؤازرة الأشقاء المأزومين على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والإغاثة والعسكرية، أي أن كل العرب دفعوا أثمان بالغة الكلفة من أمنهم واستقرارهم وثرواتهم وتقدمهم، وهو يشبه ما دفعته أوروبا في الحرب العالمية الثانية وعالجته بالحكمة والصبر الإستراتيجي شعوباً وحكومات، وهذا ما يحتاجه كل العرب الآن.