أصبح الدور التثقيفي لوسائل الإعلام أكثر بروزا خلال النصف الثاني من القرن العشرين بعد انتشار البث التلفزيوني في العالم، مما ارتقى كثيرا بالثقافة في العالم، وسهل أمام الشعوب فرص "التواصلية" و"التثاقف" على الرغم من أنه لا يوجد إعلام محايد، وإنما إعلام موضوعي، إلا أن الدور التثقيفي لوسائل الإعلام التقليدية أصابه التراجع أمام وسائل الإعلام الجديدة.

الأمر الذي اضطر وسائل الإعلام التقليدية إلى الانخراط في التقنية الجديدة محاولة منها لمواكبة العصر، ولكن ربما دون أن تزيد إسهاماتها بفاعلية في التنمية الثقافية الوطنية، فما زال محتوى الإعلام الثقافي تقليديا، وربما يعود ذلك إلى طبيعة المادة الثقافية التي لا تصاغ بطريقة مبسطة تلامس اهتمام عامة الناس، وإنما بطريقة أكثر رقيا من السائد لتهم النخب الثقافية، لأن طبيعتها لا تقبل أن تتحول إلى مادة ترفيهية أو شبيهة بها.

على ضوء ذلك يفترض أن تسهم وسائل الإعلام في ابتكار رسائلها الإعلامية/الثقافية المناسبة، وفي ظل ذلك يجب ألا تعجز عن إبراز المنتج الثقافي، ومن ذلك دور المثقف باعتباره معبرا عن الثقافة الوطنية، وناقلا لها من مرحلة السكون والجمود إلى مرحلة التفاعل والتواصلية، وعلى الرغم من مسؤولية وسائل الإعلام الثقافية الهائلة في هذا الجانب، باعتبارها صاحبة الدور الرئيس في اختيار المنتج الثقافي وتقديمه للجمهور، إلا أن وسائل الإعلام الجديدة - ومنها وسائل التواصل الاجتماعي - قد أبرزت هذا الدور بشكل انعكس على المستخدمين أنفسهم، فأصبح لدى الكثير منهم لازمة الاهتمام الثقافي حتى وإن كان محصورا في مجال هذه التقنية، وذلك نظرا للمتعة والاختلاف في طريقة تقديم المحتوى الثقافي وسهولته، فقد لا يتجاوز الأمر أحيانا عبارة قصيرة، أو صورة، أو مقطعا مصورا، يفتح آفاقا للتفاعل والحوار والتعليق.

الفرصة أمام وسائل الإعلام الثقافية ما زالت سانحة، ولكن بابتكار وتطوير المحتوى الثقافي المناسب بمشاركة فاعلة بين المثقفين والمؤسسات الإعلامية إذا ما تم صنع مشروع ممتد ومشترك لـ"صناعة الثقافة" بين النخب الثقافية وصانع الرسالة الإعلامية والجمهور، ولا سيما في مجالات يمكن أن تعتبر بالنسبة لنا على المستوى السعودي جديدة، ومن ذلك الاشتغال بالفكر وبعلم الإنسان (الإنثروبولوجيا)، وبزعمي أن لدينا نخبة من المشتغلين في هذين المجالين يمكن الإفادة منهم بالارتقاء بالثقافة والمجتمع وإيصال الثقافة المحلية إلى الإقليمية والعالمية، وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد برز الدكتور سعد الصويان - وهو أحد علماء الأنثروبولجيا في السعودية - في وسائل الإعلام في إخضاع المكون الشعبي الثقافي للمنهج العلمي، ودراسته دراسة علمية إنثروبولوجية، وقد فاز بجائزة الشيخ زايد للكتاب عن كتابه المهم "ملحمة التطور البشري".

العلاقة بين الثقافة والإعلام علاقة تكاملية، والفصل بينهما يُعد خطأ منهجياً يعيق عملية نمو المجتمع، خاصة أن تقنيات الإعلام والاتصال الجديدة المجانية قد صنعت تهديدات اقتصادية لوسائل الإعلام التقليدية، وهذا ما يهدد أيضا الثقافة التقليدية، حيث أصبحت خيارات التعرض والاطلاع على المعلومات والدخول إليها أحد ملامح المرحلة المعاصرة، وبالتالي فإن من كان يتصور أن ثقافته مستهدفة من "الآخر" معتبرا إياه يريد تقويض أهم مكونات الثقافة فإن عولمة الإعلام قد أثرت في الاتجاه نحو عولمة الثقافة، مما يجعلنا أمام تحدّ كبير يتمثل في كيفية استثمار الإعلام من أجل التنمية الثقافية، ولا سيما في التركيز على القيم الإنسانية المشتركة التي تتجاوز الانقسامات الانتمائية (العشائرية والمناطقية والمذهبية)، وخروج المنتج الثقافي من التقليدية إلى أفق إنساني أرحب يسهم في رقي ثقافة المجتمع، إلا أن ذلك رهن في كون المحتوى الإعلامي الثقافي ذا قدرة ومسؤولية في الإسهام إيجابيا بالتنمية الثقافية.