أنور بن محمد آل خليل *
قادته خطى البحث والاستكشاف وعالم صاحبة الجلالة المثير، إلى كثير من مناطق العالم وقاراته، وهو القادم أصلا من أرض الأحلام أميركا، ليجد المتعة في علم البراري والقفار، وبين أعراق ولغات وأديان وحضارات، عمل في واحدة من أهم وأشهر المجلات المتخصصة في جغرافية الأرض والثقافات وعلوم الإنسان، مجلة "NATIONAL GEOGRAPHIC"، ولدTHOMAS J.ABEROMBIE عام 1930، وتوفي عام 2006. وعلى مدى أعوام عمره حصد كثيرا من الجوائز منها جائزة الرابطة الوطنية للمصورين الصحفيين عام 1954. له كثير من الاستطلاعات الناجحة جدا استقاها من الصحارى والمناطق النائية في قارات العالم. بهره الشرق بجماله وسحره ومعتقداته وثقافته، فقال عنه: "إن الشرق الأوسط هو مكان شائق جدا لأسباب عدة، ليس أقلها أهمية أن الحضارة والأديان بدأت هناك"، وتشي ما توفر له من صور مع بدو الجزيرة، بأن "توماس" قد تأثر كثيرا بقيم وحياة البادية العربية ونعيم ليالي الصحراء الساحرة.
غير أنه على ما يبدو قد تأثر أكثر بسلوكيات المسلم وسماحة الدين، فكان كما قال قد تعرف على الدين الإسلامي قبل رحلته هذه إلى السعودية، التي تزامنت مع موسم الحج، تعرف عليه -أي الإسلام- في صحراء إيران وجبال اليمن وعلى طول سواحل تركيا، كما سيشرح ذلك لاحقا. شدني عدد المجلة الجغرافية الذي تضمن رحلة توماس إلى بعض مناطق المملكة في العام 1966، فاستعنت قبل نحو عقدين من الزمن بمترجم اسمه "حسن محمد" من السودان، كان يعمل في الأرصاد الجوية ليترجم لي نص الرحلة، إلا أنه اعتذر لكبر المادة وضيق وقته، حيث كان على أبواب سفر، غير أنه أبدى استعداده لأن يترجم الجزء الخاص بعبوره منطقة عسير كحل وسط، فوافقت بل وفرحت بذلك. وها أنا أورد لكم جانبا مما جاء في رحلته التي نشرتها مجلة "ناشونال جيوغرافيك" تحت عنوان "فيما وراء رمال مكة"، وفيها يسرد مشاهداته في أبها وجدة، وطريقة إسلامه كما رواها.
فماذا قال توماس؟
رحلة إلى سوق أبها
في قرية "الدرب"(يعني درب بني شعبة في تهامة ويبعد عن أبها بنحو70 كلم على ساحل البحر الأحمر)، التقيت رجلا طويل القامة يدعى "فهد بن محسن"، وهو زعيم راكبي الإبل، حيث تبسم لي قائلاً "أهلاً وسهلاً"، وكانت ابتسامته تملأ وجهه، "لقد وصلت في الوقت المناسب، سنغادر قبل غروب الشمس، وسوف نكون في أبها لحضور سوق الثلاثاء - إن شاء الله –، ولكنها رحلة لمدة يومين وليلتين وطريق وعرة.(الطريق التي سلكتها قافلة الجمال، هي نفسها عقبة ضلع التي تسلكها السيارات اليوم، بعد أن نفذ فيها طريق يعد من أميز الطرق التي شقت في الجبال)، غادرنا القرية مشياً على الأقدام ونحن نقود قافلة تتكون من 48 جملاً، على ظهورها أحمال ثقيلة. كم كانت مختلفة تلك الصحراء الساحلية عن بقية أراضي المملكة الواقعة في شبه الجزيرة العربية. كانت قرية "الدرب" تقليدية، عبارة عن تجمع لأكواخ طويلة ومدببة محاطة بقوائم ومرتبطة معاً بحبال النخيل، والرجال قد ارتدوا ملابس متواضعة وقبعات واسعة، والنساء قد ارتدين حجابا من قماش لامع. ولم نصعد تلك الأرض حتى بدأت تظهر بدايات النجوم. وقد ساعدني "فهد" في عملية التسلق، وأنا على متن جمل متحرك وقد فسر لي "فهد" ذلك، بأننا لا يمكن أن نوقف القافلة بأسرها لنصعد وتنزل من عليها"، إن هذا العمل يستغرق ساعة باستعمال العصي لجعلهم يتحركون من جديد، "وقمت بربط بندقيتي وكاميراتي في مواجهة إناء الماء، المصنوع من الصلصال وأكواب القهوة وسحبتها لأسفل بشكل خفيف على رأس ناقتي عندما بدأت في المشي.
متسلقو التلال الخضراء
نظرت للخلف، في العمق كانت الصحراء والبر مغطيان بضباب كثيف، وإلى الأمام قادنا المسير إلى مداخل وسبل خضراء إلى أبها.
بعد الاتصال بأمير أبها – الأمير تركي بن ماضي (أمير المنطقة من عام 1371هـ إلى عام 1385هـ مثقف ومؤرخ وله مقالات تبحث في تاريخ المنطقة)، وجدت أنه يعقد مجلساً. يستقبل فيه المواطنين ويحل أي نزاعات، حيث استقبلني بترحاب.
وبجهد هائل حسم عمل اليوم، حيث شهدت تنازع أخوين على حقل أسرة صغير، وقد أنهى الأمير النزاع لصالح الأخ الأصغر، الذي زرع الحقل كل عام منذ وفاة والده، وأمر زوج امرأة طلقها لأنها عاقر، أن يعيد لها المهر "مؤخر الصداق". وفي الخارج وفي ظل قصر الأمير، وقد وصل سوق الثلاثاء إلى ذروته. قابلت "حسين ظافر" (شخص خلوق ونبيل عرفته في التسعينيات الميلادية، حيث كان يعمل مترجما في المكتب الخاص بإمارة عسير، وقد تُوفي قبل سنوات قليلة رحمه الله)، وهو من أهل المنطقة ويتميز بأنه يتحدث اللغة الإنجليزية بشكل ممتاز، وعرض تقديم خدماته، حيث قام بإرشادي وسط هذا الزحام الشديد. وتزاحم الفلاحين على المحلات المؤقتة لشراء الأغنام والقهوة والفحم والأدوات الخاصة لبعض الأعمال. وآخرون ملؤوا محلات الشاي "المقاهي" الصاخبة التي حَفّت بميدان المدينة.
علف لحمار مفقود
بالنسبة للشابات الصغيرات من القرى المجاورة، فهن يبعن باقات من الأعشاب العطرية.
قليل منهن كُنّ محجبات، وكثير منهن كُنّ يرتدين ملابس حمراء وخضراء لامعة. وقد زُيّنت ملابسهن قطع فضية ثقيلة وأساور تلمع وتتلألأ. وقد أكد لي "حسين"، أنه في يوم الثلاثاء، يمكن لأي رجل أن يجد أكثر الفتيات جمالاً في شبه الجزيرة العربية. اشترى "حسين" رزمة من العلف لكن للأسف لم يكن لديه حمار لحملها، وبخجل وضع العلف في مؤخرة سيارة "الجيب" التي استأجرناها. انطلقت السيارة بنا عَبر الطريق باتجاه قرية "السودة"، وقرب برج مراقبة من الحجر بُني بين مداخل خضراء، وجدنا فلاحا مُسنا يحفر قناة صغيرة يروي بها حقله الذي زُرع بالشعير.
تحدث إلينا الرجل وهو يتذكر أيام صباه بعفوية قائلا، "الحقيقة أن القرى قد حاربت بعضها البعض، وفي حادثتين عندما كنت صبياً صغيراً هرعت إلى هذا البرج (القصبة) مع عائلتي، بينما قام المغيرون بسلب بيوتنا وقوتنا، ولكن عبدالعزيز "طيب الله ثراه"، وضع نهاية لتلك الغارات.
الآن ترى أننا نستعمل البرج" القصبة"مخزنا للغلال، ونستعمل بنادقنا للصيد فقط والحمد لله".
واصلنا سيرنا إلى أعلى جبل السودة الذي يرتفع 10,279 قدم، وهناك شاهدنا كتلا متشابكة كثيفة من شجر العرعر "نوع من الفصيلة الصنوبرية"، وبه شوك الأشنة الخضراء الداكنة اللون، وبها توجد نباتات الصبار، التي تستخرج منها عصارة مُرة تستعمل كمسهل، وهناك تنمو بعض أنواع الزهور بين الصخور.
وليمة الأمير
وبعد عودتي إلى أبها دعاني الأمير تركي للغداء. وبالنسبة له فإن كرم الضيافة نوع من الواجب، ولربط أواصر الصداقة مع الأصدقاء وهدنة بين الأعداء، وحتى البدوي الفقير سيقوم بغلي آخر حبة أرز لديه لأجل الغريب الذي يضيفه، وبالطبع جلست على ركبة واحدة بجانب الأمير وقد أخذ الحرس الخاصون مواقعهم حول الصينية الهائلة من الأرز المكوم عالياً وعليه اللحم المبخر، وقد ذبح حَمَلا لهذه المناسبة، وفي وسط تلك الوليمة وجدنا أطباق السلطة والباذنجان وشرائح من الخبز.. همس الأمير قائلاً: "بسم الله الرحمن الرحيم"، وهذا يعني بداية تناول الوجبة، وتناولنا الطعام كما هو مألوف هنا باليد اليمنى فقط، وضع الأمير قطعاً اللسان وقال مبتسماً: "إن من يأكل اللسان سوف يكون فصيحا".
أعظم تجمع إسلامي
قبل عودتي إلى جدة، وصل بالفعل آلاف الحجيج لأجل أعظم تجمع إسلامي، وقد امتلأ الميناء بالسفن الهائلة، وملأت الحافلات الضخمة ذات الدهان اللامع ساحة الميدان، وأُجلت خدمة الخطوط الجوية المنتظمة، حيث بدأ وصول رحلات الحجيج إلى مطار جدة الدولي. وفي أيام قليلة تضاعف عدد سكان جدة. وهكذا انضمت جدة إلى ذاك المهرجان الهائل. وبالطبع بدأ التجار يحصون ربحاً أكثر خلال شهر "ذو الحجة" أي "شهر الحج"، أكثر من بقية العام، واكتظت الشوارع والأسواق بالوافدين وهم يغيرون نقودهم "الصرافة"، ويشترون الطعام وملابس الحج والهدايا التذكارية والتذكارات الخاصة بتلك المناسبة، وقد كان بعض الحجيج يبيعون السجاد. وامتلأت الفنادق الخاصة بالعائلات بشكل تام، وبنيت مراكز جديدة خاصة بواسطة وزارة الحج على طول الواجهة المائية (يعني مُدن الحجاج التي شيدتها الحكومة السعودية في الميناءين الجوي والبحري بجدة)، وعند المطار ساعدت على استيعاب الأعداد الزائدة. وقد نام الآلاف تحت الحافلات في المواقف وحتى الشوارع.
وللحق سبق أن تعرفت على الدين الإسلامي من قبل في صحراء إيران وفي جبال اليمن وعلى طول سواحل تركيا، وقد تأثرت كثيراً برسالته، وهي تشتمل أكثر مما هو مألوف لدينا في وثيقة العهد القديم، وحتى العهد الجديد، حيث أضاف الإسلام الكثير، ومن المعروف أن شعائر الإسلام تشكلت في الصحراء القاسية وأسهمت طبيعة الحياة في الصحراء في تعزيز قيم الإسلام، ومع البساطة الساحرة فإن جوهر الإسلام لا يحيد أبدا عن وحدانية الله. وبالنسبة لعقل المسلم فإن محمدا هو رسول الله – ولا شيء أكثر من ذلك – كما كان عيسى وإبراهيم من قبله.
وفي تلك الأيام، قمت أنا وصاحبي "حسين" ـ الذي غادر معي من أبها إلى جدة لأداء فريضة الحج ـ بزيارة إلى القاضي "الحاكم الشرعي" في جدة لإشعاره برغبتي في اعتناق الإسلام، وهو ما تم بالفعل، حيث كتب تحت التأشيرة السعودية في جواز سفري "اعتنق الإسلام"، (بالبحث عن السيد توماس تبين أنه قد تسمى بعد إسلامه باسم عمر).
رحلة المشاعر
ارتديت أنا وحسين ملابس الإحرام، الذي يتكون من قطعتين من القماش الأبيض الغير مخيط، واحد منها حول الخصر والآخر يوضع على الكتف الأيسر، وكل المسلمين يرتدون نفس الملابس من الخادم الأكثر تواضعاً إلى الملك نفسه، وأيضا حزام النقود والصندل والمظلة الخضراء.
استكملت ملابسي وزيي الخاص بالحج، إضافة إلى حقيبة يد صغيرة بها كاميرات التصوير وفيلم. ومنح لي تصريح خاص لتصوير الحج.
وصل عدد الحجيج الذين يطوفون الكعبة إلى حوالي 250 ألفا، وبعد ظهر ذلك اليوم، أسرعنا بسيارتي على طول الطريق السريع الرباعي المسارات الذي يربط جدة بمكة بمسافة 45 ميلاً. وقد كان في الماضي يقطع الحجيج تلك المسافة على ظهور الإبل. الآن توجد أساطيل من السيارات والشاحنات والحافلات.
فتشنا الجنود عند نقاط التفتيش خارج الحدود المقدسة تماماً، والتي تمتد تقريباً بمسافة 15 ميلاً من المدينة، وقد وضعت اللافتات باللغة العربية والإنجليزية وهي تحذر منطقة محظورة، المسلمون فقط مصرح لهم، تجاوزنا ثكنات الجيش في الضواحي الرملية لمكة، ثم بعدما طفنا حول سفح التل ظهرت أمام أعيننا المدينة المقدسة، ولحظتها رفعنا الصوت عند رؤية ذلك المشهد "لبيك اللهم لبيك".
وقد حفت المحلات الحديثة والفنادق الميدان حول المسجد الحرام، وهو المكان الأكثر قدسية للإسلام، اغتسلنا ثم حملنا صنادلنا ودخلنا الأروقة الخارجية الهائلة بين برجين شاهقي الارتفاع، وفي الداخل قدم الشاب "محمد نور" خدماته، وهو من "المطوفين" المحترفين.
(للرحلة تتمة لم نوردها).
* باحث في التراث
1. (جميع الصور باستثناء الصورة الشخصية لتوماس، مصدرها NATIONAL GEOGRAPHIC .( vol . 129, no.1
2. ما بين الأقواس تعليق كاتب المقال أنور آل خليل