في 16 مايو الماضي مرت مئوية اتفاقية سايكس بيكو الموقعة عام 1916، ومن اللافت أن تمر هذه المئوية وخريطة العالم العربي تشهد أكبر أزماتها الوجودية منذ تأسيس الدول العربية الحديثة، وإن لم يكن بسبب نمو النزعات الانفصالية داخل عدد من الدول مثل شرق ليبيا أو جنوب اليمن، فبسبب نمو أطروحات جديدة عابرة لمفهوم الدولة القومية مثل حملة "كسر الحدود" التي أطلقها "داعش" في يونيو 2014.
بعض الأسئلة طرحها صعب أو يستدعي الاتهام بالتفريط في العروبة. على سبيل المثال: هل انفصال جنوب اليمن عن شماله سيصب في مصلحة استقرار اليمن وإنهاء جذر رئيس لمشكلته الحالية؟ وهل استقلال كردستان العراق سيغير من حقيقة الواقع على الأرض؟
من اللافت للنظر اليوم أن نرى أنه لا يزال الجيش المصري لا يملك ما يسمى بالجيش الأول الميداني، وهي سنة متوارثة من الحقبة الناصرية إبان الوحدة مع سورية عام 1958، حيث كان يعتبر مقر الجيش الأول الميداني في سورية، ولم يتم تسمية جيش أول منذ انهيار تلك الوحدة، من جهة أخرى يبدو لافتا أن نرى الفلسطينيين يحلمون بدولة من النهر للبحر تمثل كيانا اسمه فلسطين، بينما التاريخ لم يشهد نشوء أي كيان سياسي محصور على تلك البقعة الجغرافية، خريطة فلسطين من غير الكيان الصهيوني التي نحلم بها هي خريطة رسمها مكتب الاستعمار البريطاني. هذا ليس قدحا في العروبة وإنما واقعية تعي أن خرائط الدول العربية الحالية ليست سوى استحداث جديد لم يمض عليه سوى 100 عام، قبل قرن من الآن كانت ولاية بيروت العثمانية تمتد إلى نابلس الفلسطينية جنوبا. دولنا العربية في نهاية المطاف ليست سوى استحداث جديد.
إن انعكاس هذا الأمر يبدو لافتا عندما يتعلق بدراسة الوعي العربي، فهذا الوعي نشأ على الاعتقاد بكون الأوطان الحالية نتاجا طبيعيا وهي ليست كذلك، فوعينا تشكل مع الوقت وضروراته، وبالتالي باتت سورية والأردن وليبيا واليمن، على سبيل المثال، دولا مستقلة ذات كيان جغرافي وسياسي محدد، بينما هي لم تكن كذلك في أي مرحلة تاريخية حديثة. لكن السؤال: إذا كان من الممكن تشكيل هذا الوعي في فترة ما فما الذي يمنع من إعادة تشكيله مرة أخرى في فترة لاحقة؟ تجربة الدول الخليجية أكبر مثال، فهذه الدول نجحت خلال العقود الأربعة الماضية في الوصول إلى هذا الأمر بشكل كبير، ومن ثم يمكن لأي دول جديدة تنشأ أو يعاد إنشاؤها أن تصل إلى ذات الأمر مع السنوات، ويصبح لها بعدها القومي.
إننا ندافع اليوم عن بقاء الدول العربية كما هي وعن خريطة سايكس بيكو من التفكك، ليس لأننا مقتنعون بها ولكن لأن وعينا تشكل من خلالها، وليس هناك ما يمنع من إعادة تشكيل هذا الوعي. ماذا سيختلف حقيقة لو قام المصريون بضم إقليم برقة الليبي لمصر، أو انفصل جنوب اليمن عن شماله؟ ما الضرر الحقيقي من ذلك باستثناء معارضة هذا الأمر لمنظومة وعينا؟ أغلب الظن أن هذين الأمرين سيقودان لمصير أفضل لكل من البرقاويين في ليبيا والجنوبيين في اليمن، وسيجعل مستقبل كليهما أحسن حالاً من الآن. وانفصال كردستان العراق وإن كان في وعينا قضما من جسد دولة عربية، فهو في الواقع أمر قائم لا ينقصه سوى إعلانه، ولعل اعترافنا بالاستقلال يسهم في دعمنا لهم كعرب ويجعلهم جزءا من وطننا الواسع بدلا من انسلاخهم البطيء عنا.
لقد رسمت لنا خرائط الدول بالمنطقة في مرحلة تاريخية معينة بناء على ظروفها، وتشكل وعينا بناء على هذه الخرائط، فبتنا لا نستسيغ تغييرها ونتمسك بمفهوم عروبي غير واضح في هذه الحالة، ما الذي يمنع اليوم إعادة رسم الخرائط في المنطقة بناء على واقعها، حتى إن استلزم الأمر تغيير الوعي مع الوقت. مواطن الدول العثمانية قبل قرن من الآن كان يشعر بنفس الأمر على الأرجح، ولكن الفرق أنه حين نقوم نحن أنفسنا برسم الخرائط لعلنا ننتج واقعنا بدلا من أن يقوم غيرنا بإنتاجه لنا. وحين ننظر لحالة اليمن أو ليبيا على سبيل المثال، لا يمكننا الفكاك من فكرة أن دولة مستقلة في جنوب اليمن أو شرق ليبيا ستكون في واقع الأمر أكثر استقرارا وتقدما ورخاء من استمرار تلك المناطق ضمن كيانات قومية أثبتت الأيام أنها عبء ولا تحمل رصيدا سوى شعور زائف بانتماء ما، بينما الانتماء يتشكل من عصبة نشوء دولة على أي رقعة جغرافية طالما وتوفر الأساسيات لقيام المواطنة. قد نكون بحاجة الشعور بالانفصال لفترة ما لكي نقدر أهمية الاتصال، ولكي نعيد تشكيل وعينا بصورة تجعلنا نضع الأوطان قبل أي شيء آخر، على عكس ما يحدث راهنا في كثير من الدول العربية.
لقد فشلت فكرة الدولة القومية العربية التي تمت محاولة اجتراحها بالقوة، وكذلك ستفشل فكرة الدول القومية الإسلامية التي يحاول "داعش" اجتراحها بالقوة في المنطقة، لأن كليهما حاول خلق كيان غير موضوعي، وإن كانت له جاذبيته الأيديولوجية، وكذلك ستفشل إيران في خلق دولة شيعية لذات الأسباب، إن مآلات هذه الفكرة لا تتسق مع واقع الأمور، ومسألة أن الدول الحديثة تقوم على منفعة متبادلة بين شعب ضمن رقعة جغرافية محددة.
شعب اليمن الجنوبي يحارب اليوم بشكل أساسي من أجل منطقته لا من أجل كامل اليمن، ومؤيدو الانفصال هناك أكثر من معارضيه، ومن ثم فإن من شأن انفصاله عن الشمال أن يضر بوعينا لمفهوم مصلحة اليمن كدولة قومية أو عربية، لكنه في حقيقة الأمر قد يساعد على خلق دولة قوية أكثر اتساقا مع واقعها هناك وتؤدي إلى المصلحة الوطنية لأبناء تلك الرقعة الجغرافية. إننا إذا حاولنا في التحليل الابتعاد عن الرواسب الفكرية التي تمثل قواعد راسخة سنجد أن عشائر الأنبار في العراق، مثلا، أقرب لعشائر الأردن وقيادته، وقبائل إقليم برقة قد لا تمانع في الانضمام لكيان مع مصر أو الانفصال من أجل مصلحتها الأقرب لهم من إقليم طرابلس، وما محاولتنا فرض رؤية تقول إن مصلحة هؤلاء هو في البقاء ضمن دولة قومية معينة رسم خريطتها الاستعمار سوى محاولة يائسة لفرض مفهوم للمصلحة الوطنية لا يتسق مع الواقع، واجترار لخطاب قديم يدغدغ عاطفتنا بشعارات من قبيل "منع تقسيم المقسم". لعلنا نجرب هذه المرة أن نترك الخرائط تتحدث بنفسها وندع الشعوب تصل مع الوقت للقناعة بأن الاتحاد والوحدة يقومان على تشارك المصلحة قبل أي شيء آخر، وهو أمر لا تفرضه سوى التجربة.