مرة أخرى.. عاماً بعد عام.. منذ أن خلق الله الخلق.. ومنذ أن أرسى دعائم بيته العتيق وأمر الناس بالحج إليه.. وهذه الجموع الغفيرة من البشر تتوافد على مكة، فيتحول الوادي غير ذي الزرع إلى مركز الكون، وتتسلط الأضواء الباهرة على أم القرى، والتي باتت ومنذ ثلاثة عقود على الأقل تكتفي بالجلوس في الظل تاركة الأضواء اللامعة لمدن النفط الجديدة.
قدسية مكة ومكانتها الإسلامية راسختان كجبالها العظيمة، ولن تتغيرا مادام في الأرض من يقول ربي الله، فهي القبلة والحرم، مقدسة أرضها ومباركة سماؤها. لكن مكانتها العلمية والثقافية والفكرية والعمرانية لا تتمتع بالحصانة نفسها، ولهذا رأينا أحوالها تتبدل وتتغير مع دورات التاريخ. ففي مطلع القرن العشرين وحتى نهاية الستينات الميلادية تقريباً، كانت واحدة من ألمع حواضر شبه الجزيرة العربية وعاصمة الثقافة السعودية، فمنها خرج الكتاب والشعراء والأدباء الكبار أمثال: الغزاوي والسباعي والأنصاري والفقي. هؤلاء الأدباء الذين سبقوا عصرهم، فطالبوا بتعليم المرأة، وبالإصلاح على كافة النواحي الاجتماعية والسياسية والفكرية، ومن يرغب من الأجيال الجديدة في الاطلاع على نماذج بسيطة من إبداعاتهم فليراجع كتاب (من وحي الصحراء) الذي طُبع سنة 1355هـ. الموافق 1936م) للأديبين محمد سعيد عبد المقصود خوجة وعبدالله عمر بالخير.
اليوم الصورة مختلفة، يكفي أن الكثير من أبناء عائلات مكة المكرمة الشهيرة قد رحلوا عنها مختارين أو مجبرين. فالشباب رحلوا لأنهم لم يجدوا فرصاً كافية للعمل أو الدراسة أو حتى للترفيه المباح. وحال النساء مع هذه المدينة أشد من حال الرجال، فالمرأة التي كانت غالبآً ما تشد الرجل إلى الأرض، لعلها باتت من تدفعه ليرحل..إلى جدة، علها تجد مساحة أكبر قليلاً للتنفس وممارسة حياتها بشكل طبيعي حين يغدو حتى تناول العشاء في مطعم للعائلات حلماً بعيد المنال بالنسبة لها.. هكذا كان الوضع حتى وقت قريب على الأقل.
وهاجر أيضاً المثقفون والعلماء لأن ذلك الوهج الثقافي الذي كان متقداً ذات يوم قد تلاشى أو كاد. في حين أن هناك فئة ثالثة من الناس رحلت لأنه ربما لم يعد هناك سبب كافٍ للبقاء، فلم يتغير عليهم الزمان برحيل الأولين فقط وإنما المكان أيضاً، فهو لم يعد يشبه في شيء ذلك الذي ألفوه في طفولتهم وشبابهم، فلم يبق من مكة التاريخية كما يردد الكثيرون من أهلها إلا الكعبة حرسها الله.
حين تتحدث مع أحد من أبناء مكة المكرمة الذين أدركوا قبسات من ذلك الزمن الجميل عن أحوال مدينتهم في الماضي والحاضر، فلا يسعك إلا أن تلاحظ تلك المرارة في كلامهم. الدكتور سامي عنقاوي هو واحد من هؤلاء، هكذا شعرت حين شاهدت تسجيلاً لمقابلة أجراها مع الزميل الدكتور سليمان الهتلان على قناة الحرة خلال الأسابيع الماضية. فقد تحدث عن عمارة مكة المكرمة وعن الأبراج العالية التي طاولت الكعبة وارتفعت عليها لأول مرة مغيرة بذلك تاريخ المدينة كما حاضرها ومسببة نوعاً من الإرباك لهويتها. وأوضح الدكتور كيف أنه تاريخيا كانت بيوت مكة تبنى بحيث لا يكون هناك ما هو أعلى من الكعبة التي من ثوابت العمران في مكة ألا يكون فيها ما هو أعظم منها ولا حتى المسجد الحرام ذاته.
ما قاله العنقاوي، وهو المتخصص بالعمارة، هو ما يقوله -بشكل أو بآخر- كل من أعرف من ذلك الجيل منذ أن كنت طفلة، مازلت أتذكر كيف كنت أشعر بالملل آنذاك حين نكون في طريقنا للمسجد الحرام، فيبدأ الكبار بسرد ذكرياتهم القديمة عن مدينة كانت لهم ذات يوم "هنا في جياد -كما ينطقها أهل مكة- كان بيتنا.. كنا نظنه سيذهب في التوسعة لكنه تحول إلى فندق! وهنا كانت بيوت جيراننا بيت فلان وبيت فلان..كلها صارت فنادق!.. وهناك كانت مدرستنا الابتدائية"، وعندما ندلف إلى ساحة الحرم المكي سأسمع عن حلقات العلم وعن شيوخها، وحين يجيء وقت الحج سيحكون لنا عن ذكرياتهم مع الحجاج الذين كانوا يستأجرون بيوتهم ويشاركونهم معيشتهم. كنت أعتبر بوحهم هذا مملاً للغاية لأنني كنت أصغر من أن أدرك حجم الوجع، كنت لم أفهم بعد كيف أن المدن ليست كتلاً من الأسمنت ومجمعات تجارية وناطحات سحاب و"كوفي شوبز" حديثة، فللمدينة روحٌ تشكلها حياة الإنسان وذكرياته فيها، والمكان هو الشاهد الحي لذلك الزمان، الدليل الأكثر نصاعة على تلك الحياة التي كانت، فإن كان الزمان ماضياً ومتحولاً..فللمكان ثوابت.
لا شك أن للحاضر والمستقبل متطلبات كثيرة تفرض على كل مدينة في العالم أن تتطور وتتمدد وتتوسع في العمران لتلبي الاحتياجات الجديدة، أمر نشاهده في مدن عريقة وجميلة مثل لندن وباريس وروما وأثينا، ولكنها تفعل ذلك دون أن تمس الأسس الثقافية والعمرانية والاجتماعية التي قامت عليها هذه المدن منذ مئات أو آلاف السنين. وللوصول إلى هذه المعادلة الصعبة فإن هناك جيوشاً من المختصين والمهندسين والمخططين والفنانين ممن يعملون على خطط التحديث العمرانية، وهي خطط تطبق بصرامة، فلا يستطيع رجل أعمال يتوفر لديه المال أن يعبث بالمدينة كيفما شاء.
ألا نستطيع تطوير مكة المكرمة ونحن نستلهم جماليات العمارة الإسلامية ونراعي خصوصية المدينة وتاريخها العريق؟ لماذا نعتبر الجمال والانسجام كماليات لا نعبأ بها كثيراً؟ أليس الله تعالى جميلآً يحب الجمال؟ وهل سيحبه في مكان أكثر من وجه مكة التي قال عنها رسوله الكريم بأنها أحب المدن إليهما؟