حرص الرئيس الأميركي باراك أوباما خلال السنوات الماضية على ممارسة سياسة النأي بالنفس، عن أي صراع لا يدور على الأرض الأميركية، ويؤثر بصورة مباشرة على المجتمع أو المصالح الأميركية، وقد زادت هذه السياسة من شعبية الرجل في الشارع الأميركي، لأن معظم الأميركيين مقتنعون، قبل رئيسهم، بأن التدخل العسكري الأميركي في أفغانستان والعراق وليبيا لم يعط نتائج إيجابية، بل على العكس أنهك الخزينة الأميركية، وضاعف ديون الولايات المتحدة التي تنفق ألف وخمسمئة مليار دولار سنوياً على قواعدها العسكرية في الخارج في غير أوقات الحروب فقط، وأن هذه التجارب نفسها لم تخلف سوى الفوضى وأي مغامرة جديدة في مناطق الصراع والتوتر في العالم ستكون طيشا سياسيا، لا تحمد عقباه.
وهكذا يبدو أوباما منشغلا بترك أثر له في قلوب الأميركيين، ومثابرا على تحقيق الحد الأقصى من إنجازات على الصعيد الاجتماعي والمعيشي، مثل الضمان الصحي، ودعم الخزينة وغيرهما، وهو بهذا غير معني بموت السوريين إلا بالقدر الذي يعنى فيه مواطن أميركي بموت بضعة أشخاص غرباء تحت تأثير ضربة شمس حارقة في الضفة الأخرى من العالم، أو بقضاء وباء إيبولا على بضعة أفارقة فقراء في مكان آخر من تلك الضفة الأخرى من العالم أيضا، وأيضا بقدر انشغال شعوب هذه البقعة نفسها بغلاء معيشة الأميركيين وارتفاع معدلات موتهم بداء البدانة.
وفي تلك الضفة الأخرى من العالم أيضا، يأمل سوريون، بل ويراهن سوريون على تبدل السياسة الأميركية اللامبالية بالموت السوري والمأساة الإنسانية المتفاقمة منذ خمس سنوات بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، ويراقبون بدقة وحذر وتوثب وقليل من الأمل تقلبات الحملة الانتخابية التنافسية بين المرشحين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، ووفقا لتصاعد شعبية أحدهما عن الآخر يبني هؤلاء السوريون طموحاتهم وأحلامهم وخطط حياتهم حتى العام المقبل، فيضبطون معدل جرعات الأمل اليومي لديهم لينخفض، ويرتفع مع كل استطلاع رأي جديد أو تصريح ناري لأحد المرشحين أو تفصيل لافت تحمله الحملة الدعائية، أو عمل إرهابي أو تفجير أو حادث يرفع من حظوظ ترامب المعادي للعرب والمسلمين، ويدون هؤلاء السوريون على دفاتر مواعيدهم تواريخ محتملة تعدهم بإنهاء الحرب الدائرة في بلادهم ووقف طاحونة الموت المستمرة طالما أن أوباما رئيس الدولة العظمى باق هنا، هذا ما يظنه السوريون، أو على الأقل بعضهم، ترتفع حظوظ كلينتون فيحضرون حقائب العودة إلى المنطقة الآمنة التي دعت المرشحة الديمقراطية إليها في أكثر من فرصة باعتبارها حقا إنسانيا وضروريا لهم، طبعا إن كان سيبقى أحد من السوريين على قيد الحياة حتى موعد الانتخابات الأميركية المقبلة ووصول كلينتون إليها، وتنخفض حظوظها فيتخيل البعض نوبة جنون مباغت تدفع ترامب -الرئيس القادم - إلى حرق الأخضر واليابس على رأس الأسد ودعوة بوتين إلى جولة ملاكمة ساخنة لحسم الصراع، وإنزال الأول عن عرشه.
السوريون حين يحلمون لهم كل الحق في ذلك، لأن الركود والسلبية التي قزمت السياسة الأميركية حيال سورية طيلة السنوات الماضية وصلت إلى حدها الأعلى، وتجاوزت عتبة كل الخطوط الحمراء الممكنة، ولم يعد ممكنا لأي رئيس - أي رئيس- أميركي مقبل أن يسجل رقما قياسيا جديدا عن الرقم الذي سجله أوباما في سباق اللامبالاة إزاء سورية، أو أن يكون أسوأ منه مهما كان سيئا، ولا يمكن لأي سياسة أميركية مقبلة مهما بالغت في لؤمها أن تتجاهل موت السوريين أكثر مما تجاهلته خلال السنوات السابقة .إذًا من حق السوريين أن يحلموا على مبدأ ألا أسوأ مما حصل، والمستقبل إن لم يكن أفضل لن يكون أسوأ في الحد الأدنى، إذًا من حقهم أن يفرحوا لرحيل أوباما لأنه أسوأ السيئ، ومن حقهم أن يبالغوا في ابتهاجهم وأمنياتهم بتغيير المعادلة بعد سنوات من القهر والخذلان الظالم لثورتهم، حتى وان كان القادم لا يحمل الأفضل، وهو ما سيكون غالبا.
كلينتون أو ترامب، مهما اختلفت سياستاهما وتوجهاتهما ومزاجاهما وشطحاتهما عن أوباما فإنها لن تحمل تغييراً مهماً في مسار الأحداث، لأن تجربة العقود الماضية، علمتنا أن السياسية الأميركية لا تتغيّر بتغيّر الرئيس، وأن المؤسسات الأميركية الراسخة هي التي تدير فعلياً سياسة أميركا وصلاتها بالعالم، وفقط لمصلحة الخزينة الأميركية والمجتمع الأميركي.
قد يحدث تغيير في البيت الأبيض بعد الانتخابات إلا أنه لن يكون ذا أثر حقيقي على المسار الرئيسي للأزمة السورية، وستكون كل الأحداث اللاحقة مجرد تفاصيل في تلك المأساة المديدة، ولا يمكن له أن يحدث تغييراً سياسياً حقيقياً، إن لم يكن القرار شاملا عميقا وجذريا، من الداخل الأميركي، والكونجرس والبيت الأبيض والبنتاجون، وحتى تلك اللحظة سيستمر السوريون بالحلم، كما سيستمرون بالموت يوميا.