الإنسان كائن اجتماعي، مقولة علمية، يميز بها البشر، دون سائر الكائنات الحية. إن هذه المقولة لا تعني أن الكائنات الأخرى لا تتعايش مع بعضها البعض، بل هي تأكيد على أن ثقافة الإنسان ومعتقداته، وطرق تفكيره هي نتاج تفاعله مع بيئة اجتماعية محددة. ففي معظم المجتمعات الحديثة، ينشأ الفرد أولا في منزل، يتعلم من والديه ما هو محرم ومباح، وما هو جائز وغير جائز. ويتلمس خطواته الأولى، حيث يتعلم في المنزل أيضا مختلف أنواع السلوك، ومنظومات القيم الدينية والأخلاقية. ثم ينتقل إلى المدرسة، حيث مجال التفاعل والحوار والتجاذب والتلاقح يأخذ مساحات أكبر وأرحب.

وفي المدرسة، توضع الركائز الأولى، بأسلوب ممنهج، لتضيف إلى ما تم اكتسابه بالمنزل، على صعيد التربية والثقافة. يتعلم الأطفال الحرف والقراءة والكتابة. ولكل جملة يتعلمونها حضورها القوي في ذاكرتهم، وتوجيه سلوكهم. وقديما قيل العلم في الصغر كالنقش في الحجر، وليتبع ذلك مرحلة التعليم الإعدادي "المتوسط"، فالثانوي. ولكل محطة من هذه المحطات أهميتها في تشكيل عقل الطالب وتعزيز معارفه، واكتشافه للكون ولما حوله.

وأهمية التعليم في السنوات المبكرة من حياة الطالب، أنه في حقيقته، يتحقق بدرجات مختلفة بين طرفين: هما المعلم والمتعلم. والتأثير بينهما متبادل، وإن كان من المفترض أن يكون تأثير المعلم هو الغالب في هذا الحوار.

ومن خلال هذا الحوار، يشارك المعلم والدولة باعتبارها الراعي لقضايا التربية، في تنمية قدرات الفرد وتوجيه سلوكه وثقافته، فالمعلم أجير لدى الدولة، فمهمتها لا تقف عند صياغة الإستراتيجيات وتحديد الأهداف، بل أيضا في اختيار الأدوات الأكثر فاعلية في خلق المواطن الصالح، وتنمية قدراته ومواهبه.

ذلك يعني أن مهمة الدولة هي خلق جيل المستقبل، الجيل الذي يكون قادرا على بناء الوطن، وهذه مهمة معقدة ومركبة، وذات أوجه كثيرة. فالتعليم ليس هدفه النهائي هو القضاء على الأمية، وإن كان ذلك ضمن الأولويات، بل صناعة فرد قادر على المبادرة والإبداع، والإيمان بالعلم، وبقدرة العقل على الكشف، وبناء مجتمع جديد متماه مع العصر الذي يحياه. مجتمع يرفض التكلس والجمود، ويسفه البدع والخرافة.

وعلى هذا الأساس، فإن التعليم ليس معزولا عن إستراتيجية الدولة في البناء والخطط التنموية التي تطرحها، كما أنه ليس منفصلا عن مبدأ المواطنة، حيث من خلال ممارستها، يكتسب الفرد مكانته الاجتماعية اللائقة به، ودوره الوظيفي وقدراته وفاعليته، وليس من خلال أية أسباب أخرى.

إلا أن تأهيل الفرد، لتحمل مسؤولياته الوطنية، ليس ممكنا من غير تربية وطنية، تتجانس مع التطور التاريخي، حيث الوطن هو المحور وليس الجماعة. لقد خلق التطور التاريخي هذا الواقع، بهزيمة البنيات الاجتماعية القديمة، قبلية وعشائرية وطائفية وأية انتماءات أخرى سابقة على انتصار فكرة الوطن. ولذلك فإن برامج التربية الوطنية، لا بد وأن تكون متجانسة مع هذا التحول، ومعبرة بصدق عنه.

إن التمييز بين الانتماء للوطن والانتماء لجماعات متخيلة ليس اعتباطا، بل شرط أساسي للعبور من الأزمة الراهنة التي تمر بها أمتنا العربية إلى مرحلة أخرى، مرحلة لا يكون فيها مكان للتطرف والإرهاب. وهي بالتأكيد عملية صعبة وشاقة، لكن ضرورات الكفاح الدؤوب للخروج من عنق الزجاجة يؤكد ألا مخرج غيرها.

إن إستراتيجية الخروج من نفق الأمة الراهنة، تستوجب أولا إعداد المعلم باعتباره العنصر الأكثر تأثيرا في الترويج للخطة الوطنية التربوية. وهذا الإعداد لا ينبغي أن يكتفي بالاهتمام بالجانب الأكاديمي فقط، بل ينبغي أن يتصل بتأهيله ليكون قادرا على إشاعة مبادئ وأهداف المواطنة، بالبعد الإنساني الواسع. وليس يكفي أن يكون المعلم مستوعبا لهذه المبادئ ومؤمنا بها، بل يجب أن يمتلك القدرة والجاذبية على بثها، وتمكين الطلاب من استيعابها، ونشرها في المجتمع.

إن ذلك يرتب على الدولة، وبشكل خاص مؤسسات التعليم، اختيار المدرسين من نمط خاص، نمط قادر على تحقيق الأهداف المرجوة من برامج التربية. كما يقتضي الزج بالمعلمين في دورات تدريبية وتأهيلية متتابعة، نوعية ومكثفة للتأكد من استيعابهم لبرامج التأهيل الوطني، والتعايش مع روح العصر.

على أن ذلك وحده لن يكون كافيا، فالطالب لا يكتسب ثقافاته وتقاليده من خلال المدرسة وحدها. فهناك المنزل، وهناك الأقران والمجتمع. وجميعهم مؤثر في تكوينه وسلوكه. وما حدث في السنوات الأخيرة، من تغول لظاهرة التطرف والإرهاب، لا يمكن رده إلى ضعف البرامج التربوية فقط، بل إن كثيرا منه هو نتاج بيئة عربية واسعة، أمست بفعل ظروف عديدة، حاضنة لهذه الظواهر. ومحاربة الإرهاب، على هذا الأساس تقتضي وعي أسباب وجود هذه الحواضن، ومواجهة حقيقية للتطرف في جميع مرتكزاته وخنادقه وعدم الاكتفاء بجوانب وإغفال أخرى.

ولأن الدولة هي التي تضطلع في الأساس بمكافحة الإرهاب، وإن كان على المجتمع أن يكون رديفا لها في تحقيق ذلك، فإن من المهم أن تكون العلاقة بين المدرسة والمنزل والمجتمع علاقة تكاملية، وتصب جميعها في المواجهة الوطنية الكبرى لهذه الظاهرة المقيتة. بمعنى آخر، لن يكون كافيا أن يقتصر أثر التربية الوطنية على المدارس، بل لا بد من تبني إستراتيجية عملية واضحة، لخلق بيئة اجتماعية مناهضة للإرهاب والتطرف. وشرط ذلك هو تغليب مفهوم المواطنة، وجعلها ثقافة عامة تتسلل إلى كافة مكونات المجتمع العربي. وأساس ذلك تعميم ثقافة التسامح ونبذ الكراهية، وتغليب الهوية الجامعة على ما عداها من الهويات الصغرى.

ولن يكون ذلك ممكنا، إلا بتحديد حقوق وواجبات كل فرد من أفراد المجتمع ومقابلة استحقاقات الناس. والارتقاء بالتربية الوطنية، ووعي الجميع بمخاطر الإرهاب على التنمية والاستقرار، وتقدم الأمة.