الخرائط الفكرية، أي تصورنا للجغرافيا البشرية في العالم ودوائر الذات والآخر، تؤثر بشكل أساسي في التصور الأخلاقي لعلاقتنا بالآخرين. على سبيل المثال بعض التصورات الذهنية للذات والآخر تجعلهما في علاقة تنافٍ. أي أن تأسيس الذات يقوم على أنها نقيضة الآخر، لذا تجد التركيز على ما يفرق الذات عن الآخر لا عن ما يجمعها به. الذات الجيدة والصائبة والجميلة تعني هنا كذلك أن الآخر سيئ ومخطئ وقبيح. من هنا يمكن فهم التصورات النمطية الغريبة والعجيبة عن الآخرين الأغراب، والتي نجدها عادة في الخرائط الفكرية التقليدية. علاقة التنافي مع الآخر عادة ما تعني معها علاقة العداء معه. بمعنى أن الأصل والمتوقع هو العداء بين الذات والآخر. هذا الخوف كان مفهوما قديما حين كانت الجماعات منغلقة على بعضها والآخر بعيد، والبعد عادة يشكل فجوة، لكن الذي حصل هو سحب الخرائط القديمة بتصوراتها المنغلقة على عالم مفتوح أصبح الاختلاط فيه بين الجماعات هو الأساس.

حين نعيش في عالم من الاختلاط بتصورات ذهنية مسحوبة من عالم العزلة فإننا بالتأكيد سنواجه مفارقات غريبة. هذه المفارقات يمكن ملاحظتها في سلوك ومواقف عدد من المبتعثين في الخارج. هذا المبتعث يغادر بلده بتصورات معينة، في الغالب سلبية عن الآخرين. على سبيل المثال يعتقد الكثيرون أن غير المسلمين لا يحبون المسلمين، وأن غير المسلمين تنقصهم المعاني الأخلاقية الأساسية في الحياة، كالرحمة والعطف والمساعدة للآخرين. كذلك يعتقدون أن هؤلاء الأجانب لا تهمهم إلا مصالحهم الشخصية لا أكثر. الذي يحصل عادة أن هذه التصورات ترتبك حين يصل هذا المبتعث إلى بلد الابتعاث. التجربة الجديدة بدأت تظهر له صور مختلفة ومغايرة عن الآخرين، فهو يجد منهم في كثير من الأحيان الاحترام والتقدير والمساعدة في مواقف تعجز تصوراته القديمة عن تفسيرها. أحد أصدقائي مثلا تبرعت جارتهم الكبيرة في السن بتوصيل أولاده يوميا من البيت لحافلة النقل المدرسي في الصباح ومن الحافلة للبيت في المساء. التفسيرات التقليدية لا تفسر هذا السلوك، فهذه السيدة تقوم بهذا العمل بالمجان ولم تستخدمه لدعم سيرتها الذاتية، فهي متقاعدة ولا تبحث عن عمل. كذلك هذه السيدة لم تدع صديقنا ولا عائلته إلى اعتناق أفكار ومعتقدات أخرى. التفسير الآخر هو أنها فعلت هذا الفعل كعمل خير ومساعدة، كان التفسير الذي هرب منه صاحبنا طويلا بحثا عن تفسير آخر. هذا التفسير سيربك تصورات صاحبنا التقليدية التي أساسها أن العلاقة (بيننا) و(بينهم) علاقة عداء أو تنافس في أحسن الأحوال.

نلاحظ هنا أن الحاجب بين صاحبنا وجارته هو أنها وقعت ضمن جماعة معينة داخل خريطته الذهنية لا أكثر ولا أقل. كل علاقته الشخصية مع هذه الإنسانة لا تدعم تصوراته التقليدية، ولكن إدراج هذه الإنسانة في جماعة معينة والحكم عليها ضمن تلك الجماعة هو الإجراء الغالب والمتحكم.

بالنسبة للمبتعثين نلاحظ ردود فعل مختلفة منها ما يأخذ طريق تعزيز المواقف التقليدية من خلال خلق حياة مزدوجة. على المستوى العملي ينطلق هذا المبتعث في المجتمع بشكل سلس وطبيعي ويستثمر الكثير من إيجابياته، ولكن على المستوى النظري نجد أنه يعزز خطابات العداء والكراهية عادة من خلال تركيزه على مواقف محددة، خصوصا في السياسة الدولية. الطرف الثاني تتولد لديه ردود فعل ضد الجماعة الذاتية (السعوديون هنا) ويبتعد عن الاختلاط أو الاحتكاك بهم. عادة ما ينتج هذا الموقف عن ملاحظة للفرق الكبير بين الجماعة الجديدة التي تتقبل المبتعث كما هو والجماعة القديمة التي تطالب المبتعث بالمحافظة على الكثير من القيم والمبادئ. الذي يحصل أن هذه التجربة الخانقة مع الجماعة التقليدية تمتد لتشمل أفرادا لا يعرفهم هذا المبتعث ويحكم عليهم من الخارج. الاحتمال الآخر هو أن تساعد تجربة الابتعاث المبتعث على إعادة النظر في أس القضية، أي أن يراجع الخريطة الذهنية التي رسمت له العلاقة بين البشر. هذه المرحلة تتضح من خلال تعليق أو تخفيف أثر الخريطة الفكرية التقليدية وإعطاء التجربة الشخصية مساحة أوسع في تحديد علامات العلاقة مع الآخرين. هذا يعني أن يقول المبتعث: سأحكم على علاقاتي من خلال تجربتي الشخصية لا من خلال مقولات متوارثة أحملها في ذهني. هذه المراجعة للخرائط التقليدية لا تعني فقط إعادة الفرصة للتعرف على الآخر بعيدا عن القوالب، بل تصل حتى إلى إعادة تعريف الذات والآخر. على سبيل المثال يتم رفض المشترك اللغوي أو العرقي كأساس لتحديد جماعة الذات والآخر واستبداده بمعيار أخلاقي، كأن يكون احترام حقوق الآخرين هو معيار الانتماء. الذات هنا أصبحت مثلا لجماعة محترمي ومحترمات حقوق الآخرين. هذا التعريف قد يتحول بذاته إلى خريطة منغلقة أو قد يصبح بوابة للانفتاح على الآخرين من خلال الاعتماد على هذا المشترك الأخلاقي الأساسي.

السؤال الأخلاقي الموجه للخرائط الفكرية يتوجه إلى العلاقات التي تنتجها تلك الخرائط وإلى التصورات الذهنية التي تعززها عن الذات والآخر. الخرائط التي تجعل الآخر يحمل الصفات المضادة للذات تجعل من تواصل الذات بالآخر أكثر صعوبة وأقل احتمالا، كما ترفع في ذات الوقت احتمال العنف والصراع والانغلاق.