تلعب الدبلوماسية الشعبية دورا كبيرا في تعريف المجتمعات والشعوب ببعضها البعض، وتستغلها كثير من الدول المتطورة في التعريف بنفسها وقيمها وموروثاتها، ولا أعني بالدبلوماسية الشعبية، فقط، تلك الوفود التي تتبادل الزيارات، بل إن كل جهد عفوي يصب في مفهوم الدبلوماسية الشعبية.
ولأننا أمة تحب الترحال، وتعشق السفر في أقطار الدنيا، طلبا للراحة والاستجمام، فإن السياح السعوديين بإمكانهم تقديم صورة ذهنية جيدة للمجتمع السعودي، وتعريف الآخر بإنسان المملكة، الذي أسهبت الصحف الغربية والأفلام العربية، والروايات الصفراء في تشويه حقيقته، وتقديمه على أنه العربي الثري الغارق في ملذاته.
والحقيقة أن كثيرا من الذين يزورون المملكة للمرة الأولى يفاجؤون بظلم الصورة التي رسموها في أذهانهم عن الإنسان السعودي، وقال لي أحدهم ذات مرة إنه لم يكن يتوقع أن يرى الشاب السعودي وهو يمارس العمل داخل البورصة، أو يقدم خدماته للجمهور في المطارات، أو يسهر على أمن المجتمع في سيارة دورية أمنية، بل كان يعتقد أن كل شاب أو رجل سعودي له مؤسسة تجارية، يستقدم لها الموظفين من الخارج، ويمعن في ظلمهم وحرمانهم من الرواتب. وعندما أطلعته على نسخة من القوانين السعودية، وأوردت له عددا من الحالات التي اقتص فيها مكتب العمل من السعوديين المخالفين للأنظمة، الذين يستغلون العمالة الوافدة، وحكم عليهم بغرامات كبيرة وصلت في كثير من الأحيان إلى إغلاق منشآتهم التجارية، بدأ في مراجعة كل تلك الإسقاطات.
وإذا ما حاولنا تتبع السبب في وجود تلك الصورة الزائفة للمواطن السعودي، في أذهان مواطني كثير من الدول، لا سيما الغربية منها، نجد أنه إضافة إلى المغالطات التي تقدمها بعض وسائل الإعلام المدفوعة بدوافع خاصة، أو التي تحركها أجندة خفية، فإن بعض السياح السعوديين، خصوصا في الدول الأوروبية، يأتون بتصرفات تسيء إليهم وإلى مجتمعهم، فكم شاهدنا على صفحات الصحف مشاهد لهم يفترشون أراضي الحدائق العامة، يسهرون إلى وقت متأخر، وهم يلعبون الورق، وتتناثر حولهم بقايا علب المشروبات وأوراق السندوتشات، وهناك من يجلس في تلك الأماكن التي جُعلت متنزها للأسر والعائلات، وآخرون قدموا فقط لممارسة هواية الاستعراض بسياراتهم الفارهة، فبعضهم يصبغ مركبته بالذهب إمعانا في جلب الأنظار له، مما دفع الآخرين إلى تكوين صورة ذهنية مغلوطة عن مواطني هذه البلاد، دون إدراك أن هؤلاء لا يمثلون سوى شريحة بسيطة من المجتمع السعودي.
ومن المفارقات العجيبة أن صورة المملكة –كدولة وحكومة– تختلف عن تلك الصورة الذهنية بدرجة كبيرة، لسبب بسيط، هو أن حكومتنا تبذل جهودا كبيرة لتقديم صورة مغايرة، ففي سنوات قلائل قامت المملكة بأعمال كثيرة، جعلتها محط أنظار العالم، مثل تأسيس وتمويل مركز مكافحة الإرهاب، في الأمم المتحدة، ومؤتمرات الحوار مع أتباع الديانات الأخرى، وضمان استقرار أسواق النفط في العالم، وتأسيس التحالف الإسلامي لمكافحة الإرهاب، إضافة إلى الأعمال الخيرية الأخرى التي تمولها المملكة، والتي جعلت الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، يعلن في تصريح رسمي أن المملكة هي أكبر الداعمين الدوليين لبرامج المنظمة الدولية.
هذا التباين، يوضح بجلاء أن أطياف المجتمع المدني السعودية أمام مهمة حتمية، لا بد أن تقوم بها، جنبا إلى جنب مع المواطن نفسه، وهي ضرورة تقديم أنفسنا بطريقة صحيحة، وأن نعرف الآخرين بما لدينا من جوانب مشرقة، وهي كثيرة والحمد لله. ولا يلزم أن نسافر إلى الخارج لفعل ذلك، فنحن الشعب الوحيد في العالم الذي يأتيه الناس من كل أقطار الدنيا سنويا، طلبا لأداء فريضة الحج أو شعيرة العمرة، وزيارة الحرمين الشريفين، وهي مناسبات نبذل فيها –حكومة وشعبا –جهودا كبيرة لأجل خدمة الزوار والضيوف، لكننا بحاجة إلى تقديمها بصورة أفضل من الناحية العملية.
لا يكفي أن نمد أيادينا بالمساعدة للآخر، أو تقديم العون، فهذا جانب مهم، لكنه ليس الوحيد، فلماذا لا نقيم بعض فعالياتنا الثقافية والأدبية بالتزامن مع موسمي الحج والعمرة؟ ولماذا لا يتم تفعيل البرامج والندوات التي تقيمها بعض الوزارات والدوائر الحكومية بصورة مكررة تكاد تتشابه منذ عشرات السنين؟ بإمكاننا إقامة فعاليات مدروسة بلغات أجنبية حية، مثل الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وأن نحدث الآخرين بألسنتهم، فهذا أنجع لإقامة الحجة وإظهار الدليل، فهؤلاء الذين نخاطبهم سيعودون إلى بلادهم وهم أشبه بمحامين يتولون الدفاع عن المجتمع السعودي، ويظهرون إيجابياته وثقافة أبنائه. أما أن نكتفي بإقامة فعاليات باللغة العربية، في قاعات مغلقة، تنفق عليها ملايين الريالات، لبعض بني جلدتنا فهذا حرث في البحر، لا يقدم ولا يؤخر، فمن منا لا يعرف جلال الإسلام؟ ومن الذي أتى إلى الحج وهو لا يدرك عظمة شعائره؟
أمامنا عمل كبير، ينبغي أن نقوم به، اليوم قبل الغد، كي نعيد التفكير في تقديم أنفسنا بصورة جديدة مؤثرة، وأن نجادل الآخر بلسان فصيح، حتى لا ترسخ صورة الآخرين الذهنية عنا بأننا مجرد أثرياء متشببين، يلهثون وراء ملذاتهم الزائفة ببن أزقة وشوارع أوروبا وأميركا وغيرها من الدول المستقطبة للسياح السعوديين.