يقول أحد المختصين إنه حين نصغي لمن قام بجريمة أو عمل إرهابي ما، أحيانا لا يمكننا أن نفرق أو نقتطع المبررات الخاصة من العامة، قد يقول أحدهم أسبابه بكل وضوح، ولكن غالبا ما يكون هنالك أسباب أو دوافع أخرى، يرفض أن يعترف بها، بل يلجأ إلى التبريرات التي يجدها أسهل من الاعتراف بما يجري في داخله من أمور غريبة، بشعة، مخجلة أو لا أخلاقية! ومن هذه النقطة أنطلق اليوم في مقالتي، فيما يخص الداعشيات اللائي كما يطلقن على التحاقهن بهذه المنظمة الإرهابية كلمة "نفير"! فلقد كتبت مئات المقالات، وأجريت العديد من الدراسات التي تطرقت للأسباب التي تجعل الأنثى تلتحق بالمنظمات الإرهابية، بدأت قبل عقود مع ظهور تجنيد النساء، سواء في أوروبا أو في الأميركتين أو الشرق الأوسط، إلى يومنا هذا مع ظهور القاعدة ومن ثم داعش والنصرة، وكل ما سوف تفقص وتبيض من أسماء جديدة.

والآن لننظر إلى الكلمتين "هروب" و"نفير". حين نريد أن نستخدم الأولى من المفترض أن يكون مع البنات اللائي يهربن من أهاليهن لأسباب عدة، وقد يعرفن أو لا يعرفن إلى أين المهم أي مكان يأخذهن بعيدا عمن يتسبب بالألم أو الخوف أو أي من الأسباب التي عرضت في الدراسات عن هروب الفتيات. ولكن ما يجب، وهذا رأي شخصي، ألا تتضمن الإناث، من مجتمعنا، اللائي يذهبن إلى الخارج للالتحاق بالمنظمات الإرهابية، ولنركز هنا على أن أكثرهن إن لم يكن الغالبية سيدات إما متزوجات أو مطلقات، المهم أنهن لسن مراهقات أو فتيات صغيرات بجدايل وشرائط! لأننا في الحالة الأولى قد نتعاطف معهن، بل نبحث لهن عن الأعذار، ونقوم بكل ما يجب كمجتمع متعاون متكاتف أن يجد لهن طرق العودة والصلح أو طرق إيجاد حلول للتحديات التي تسببت أصلا بهروبهن، أما الأخريات فلا يمكن أن نجد أي عذر لهن! فهن خرجن من الوطن وهن يعرفن تماما إلى أين ومع من سوف يلتحقن!

إذا بدلا أن نضيع وقتنا في "لماذا" وقد باتت معروفة ولا تحتاج للشرح، يجب أن نركز على "كيف، ومتى، وأين"؟ كيف حدث وأن انضمت "سين أو صاد" بالذات لداعش أو لغيرها؟ ما الشبكات التي ساعدت في تسهيل عملية الانضمام؟ وأين وكيف تم التواصل والترتيبات؟ قد لا نستطيع أن نخترق الدوافع أو نغيرها بعد تكونها وتمكنها من الفرد، لأننا لو أردنا النجاح نبدأ قبل وليس بعد، بينما مع تضافر المجتمع مع الجهات المختصة، كل في مجال قدراته ومهاراته ومعلوماته، نستطيع اختراق شبكات تجنيد الإرهابيين أو حتى تعطيلها. وهنا لا أعني بإهمال "لماذا"، ولكن هذا الطريق قد أخذ الاهتمام الكافي، مما يجعلنا نفكر بأنه قد جاء الدور للتركيز على الأجزاء الأخرى من تركيبة التساؤل.

إن داعش وغيره من المنظمات الإرهابية يحتاج المرأة، وهذه الخطوة لم تكن فكرة لاحقة، بل خطة إستراتيجية مخطط لها منذ البداية من أجل التأكيد على مفهوم "دولة"، لأنه بدون نساء تابعات له أو أطفال لا يتم له تسويق نفسه على أنه دولة وليس تنظيما أو فصيلا أو كتيبة، ثم أن تجنيدهن ليس فقط للاستمتاع المجاني والتكاثر، بل أيضا من أجل إشعال نار الحقد والكراهية في نفوس النشء، وتربيتهم على حمل شعلة الإجرام بعد موت آبائهم، وقد يكون أيضا تقديم هؤلاء الأطفال قرابين لهمجيتهم، ويتم تجهيزهم لعمليات انتحارية، وهم أصلا لا يفقهون ماهية الموت! نعم يتم التجنيد من أجل رسم صورة المدينة الفاضلة للبقية لكي تُجر الأغنام للمذبح! فلنلقِ نظرة على الصور الدعائية التي تنشر على شبكات التواصل، سنجد نساء سعيدات يتصورن في الطبيعة والهواء الطلق مع الأطفال وهم يلعبون في الساحة العامة أو في ملعب مجاور لسكنهم، أو بجانب مسبح أو سيارة فخمة وهن يحملن الأسلحة مثل الرشاش أو المسدس ويرفعنه في الهواء كعلامة قوة ونصر! فعلا فقد امتهن جلسات التصوير "الهوليودية"، خاصة أيقوناتهن "أم قرقاع وأم ضباع وأم أصباع"! أو تجد صورا لهن في الأسواق حيث وفرة كل شيء من طعام ولباس وغيره، أو برفقة إرهابي "الفوتوجينك أبو شوشة وعضلات" وهما في قمة السعادة: تعالي يا أُخية وستحصلين على زوج مثله! وإن لم تكن الصور كافية، فلننظر إلى "تغريداتهن" عن السعادة والجنة والراحة النفسية التي يتمتعن بها! من هذا كله وغيره يتضح لنا أن وظيفتهن ليس فقط لرسم أفضل اللوحات عن الأسرة في كنف مجتمعهن، بل أيضا لجر المزيد من الإناث، طبعا كل واحدة حسب جنسيتها ولغتها تسلم الملف وتبدأ بالتجنيد من خلال العالم الافتراضي! هذا عدا استخدامهن في التجسس ومراقبة المجتمع الفاضل الذي يفرضونه بالقوة، ومن تخالف تُجلد، ومن تحاول الهرب تُقتل! كلا لسن هاربات ولا مغرر بهن، بل هن من يُغررن بإبليس ذاته!

من وجهة نظري، إن أحد أسباب نجاح داعش في الاستمرار في التجنيد رغم ما يتعرض له من ضربات قوية وموجعة تسببت في خسارته لمساحات كبيرة، هو أننا ركزنا كمجتمع على الأسباب "لماذا" وأهملنا الطرق التي يتم فيها التجنيد! يقول المحلل الصيني سون تزو: (Sun Tzu) "إن كنت تعلم قدراتك وقدرات خصمك، فما عليك أن تخشى من نتائج مئة معركة. وإن كنت تعرف قدرات نفسك، وتجهل قدرات خصمك، فلسوف تعاني هزيمة ما بعد كل نصر مكتسب. أما إن كنت تجهل قدرات نفسك، وتجهل قدرات خصمك، فالهزيمة المؤكدة هي حليفك في كل معركة". إننا بحاجة إلى اختراق دعايتهم وعرض أكاذيبهم في مساجدنا، ومدارسنا، وجامعاتنا، بل يوميا على إعلامنا وجميع وسائل التواصل الاجتماعي، أما طرق التجنيد والتواصل وتسهيل الترتيبات من المغادرة حتى الالتحاق فهذه طبعا من مهام الجهات المختصة، ولا سيما عند القبض على إحداهن قبل أن تغادر أو قبل أن تصل إليهم. المهم عند تضافر جهودنا جميعا كمواطنين بهمة ووعي وإرادة، نستطيع أن نسهم في نهايتهم بإذن الله تعالى.