كثيراً ما تشغل الأحلام أصحابها عن تحكيم العقول في العواطف، فيكون الحُب والبغض خاضعين لأحلامنا، نحب منْ وما نشعر أنه يقربنا منها، ونبغض منْ وما نشعر أنه يبعدنا عنها، وليس شرطاً أن يكون شعورنا هذا تجاه من نحب ومن نبغض مُخْتبراً وفق الموازين الطبْعِية للحقيقة والعدل، فتسلط الأحلام على العقول كلما زاد ضعفت قدرة الإنسان على التميِيز بين الحقيقة والوهم، بل رُبما جبُن عن استعمال تلك المعايير التي تْساعِدْه على التخيير بينهما، ولذا كانت أعظم الفِخاخ إنما تُنْصب للناس حينما يعظم تعلقهم بأحلامهم، فقُدُراتُهم على التبصر في دروبهم تضعف حِينئِذ حيث تكون أعينهم مُعلقة بالمدى، لا بعقبات الطريق وتعرجاته.
هنا يكون الإنسان في أضعف حالاته وأشدِّها مناسبة لإغرائه باعتناق الأفكار التي تتجاوز معايير العقول الراجحة، أو تتبُّعِ الشخصيات التي لا تريد للأعين التفطن إلى مثالبها وتجاوزاتها.
خُذ من الأمثلة على ذلك: حين بدأت أعين الشباب العربي تتعرف على الغرب كانت الماركسية تُعْمِل آلتها الإعلامية لترويج أفكارها الحالمة، وتستهدف الآيسين من الثراء، أو الحاقدين على الأثرياء لتصنع لهم حُلماً بعالم خالٍ من الثراء الذي يعجزون عنه أو الأثرياء الذين يكرهونهم، واستطاع دُعاة الماركسية أن يُروِجوا فكرهم البعيد عن المنطق الطبيعي للأشياء بين أولئك الذين تقبلوا هذا الحلم وأقبلوا عليه، حتى في بلادنا هنا في المملكة العربية السعودية استطاعت أحلام الماركسية المتوترة في الستينات والسبعينات من القرن الهجري الماضي أن تجد لها مستقراً في بعض القلوب والعقول التي يئست من الغنى أو حقدت على الأغنياء، وتطلعت تلك العقول إلى لينين وستالين وماوتسي تونغ السفاحِين الذين قتلُوا ملايين البشر دون رحمة، ومع ذلك لم تبصر هذه العقول الغارقة في حلم الماركسية السخيف تلك المجازر العظام والمقابر المليونية ولم تر في لينين وستالين وماتوسي سوى قادة البشرية إلى جنة الأرض القادمة التي لا يرون فيها سوى من يعمل قدر طاقته يأخذ قدر حاجته، فلا أغنياء ولا فقراء.
وحين طار دُعاةُ ما عُرِف بالقومية العربية وراء الانبعاث العربي ووحدة العرب، عزفوا على وتر الأحلام فرقص لهم الكثيرون هنا وهناك، وتناسى الراقصون في غمرة حُلُمِهم واقع بِلادِنا الجميل الواعد آنذاك، أي: في سبعينات وثمانينات القرن الهجري الماضي، وركضوا خلف زعماء القومية المفلسين بتمجيد لا يستحقونه، في زمن كانت بلادنا فيه دولة حديثة تبْنِي نفسها بجد واجتهاد، وتقوم بواجبها تجاه أمتها المسلمة وعروبتها الأصيلة خير قيام، لكن البعض بلغت بهم سكرة الأحلام درجة لم يستطيعوا معها أن يفتحوا آذانهم إلا لإذاعة صوت العرب من القاهرة، حيث كان يخطب جمال عبدالناصر الذي جعلت منه أحلامهم الساذجة رمزاً ينسون من أجله واقعهم الواعد وحقيقتهم التي كانت أجمل بكثير مما ينسج لهم دعاة القومية من أحلام.
تورط بعضُ الحالمين بالماركسية أو بالقومية العربية بجرائم مؤسفة تجاه بلادهم، وكانوا على استعداد لأن يتورطوا أكثر لولا أن خيبة أملهم برموزهم كانت قاسية واكتشافهم للكذبة الكبيرة كان مُبكِّرا.
ولا تزال الأمثلة تترى وستظل تترى على تسلط الأحلام على العقول، وليس العيبُ في أن نحلُم، لكن العيب في أن تكون الأحلام هي سيدة الموقف، وهي المتحكمة بعواطفنا وأفكارنا ورؤانا، فلا ننظر إلى الواقع إلا من خلالها، ولا نزِن الرِّجال والأفكار إلا بميزانها، ههنا يكون الخلل، بل من هنا تنطلق الأخطاء القاتلة.
وهكذا يمكننا أن نفهم الأثر القائل: "أحبب حبيبك هوْناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوْناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما"، فالهوْنُ في الحب والبغض هما في إدخال العقل والبصيرة والنظر إلى العواقب والمآلات بين طيات العاطفة، وحينما تكون العاطفة صِرفة ليس فيها شيء من ذلك فإنها تجعل صاحبها أصم أعمى سريع العثرات لدى آفات الطريق، ومن هنا يأتي الأثر الآخر: "حُبُّك الشيء يُعْمِي ويُصِم"، أي حينما تكون العاطفة صرفة خالصة من مقتضيات العقل، فإنها تُفقد صاحبها أهم الحواس التي يُميِّزُ بها بين الحق والباطل، السمع والبصر.
هذه الخواطر كنتُ أتأملها وأنا أتابع زيارة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لروسيا، ومِن بعدها زيارة وزير الخارجية الإيراني لتركيا، وقبل ذلك وبعده التطبيع التركي مع الصهاينة والذي تم الإعلان عن بدء أولى مراحله قبل أيام.
كل التصريحات التركية في هذه الحوادث الثلاث لا تتناسب مع الأحلام التي حلق بها الإسلاميون العرب مع حزب العدالة والتنمية التركي، فتركيا قاهرة الإمبريالية تعقد اتفاقية تطبيع كامل مع صنيعة الإمبريالية وابنتها المدللة وولايتها الواحدة والخمسين، وتركيا رأس الحربة في مواجهة المشروع الفارسي تعلن أن أمنها من أمن إيران وأمن إيران من أمنها، وتركيا حامية حمى القضية السورية ورافعة لوائها تبرم الاتفاقيات الجسام مع أكبر عدوين للشعب السوري ومن يقفون وراء كل ما يعاني منه السوريون من قتل وتهجير وتدمير، روسيا وإيران.
ثلاث صدمات قوية جاءت وراء بعضها يُنْتظر منها أن تنتزع الحالمين من أحلامهم وتجعلهم يفكرون بطريقة صحيحة، ويُقيِّمون الأحداث من حولهم بطريقة أكثر وعياً .
من لم تُفِدْهم الصدمات الثلاث وما زالوا راغبين في الإغراق في الأحلام سيشغلون أنفسهم بالاعتذار والتبرير، وستتلوها صدمات أُخر، ويظلون معها يبررون حتى يفقدوا مصداقيتهم أمام أنفسهم وأمام الناس.
بل ربما يعود كثير من هذه التبريرات عليهم بالوبال، ويوقعهم في أزمات أخلاقية هم عنها في غنى، فتبريرهم لاعتقال وفصل عشرات الآلاف من المدنيين في انقلاب عسكري، دون مبرر سوى حُبِّهم وثقتهم بالرئيس التركي، سيجعلهم هم يوما ما وفي تركيا نفسها أو في أي بلد آخر عرضة لمثل هذا الاستئصال، وعندها بماذا سيحتجون؟.
وما الفرق بينهم حينئذٍ، وبين أولئك العلمانيين والليبراليين الذين أضفوا على أحداث 30 يونيو في مصر قبل ثلاثة أعوام كل أوصاف الثناء والتبجيل وعلقوا عليها الكثير من أحلامهم، وبرروا اعتقال الإسلاميين وباركوا الحكم بإعدامهم ودعوا إلى استئصالهم؟
إن الانعتاق من سطوة الأحلام على العقول تجعل الإنسان أقرب إلى العدلِ في فهمِ ما يحيط به والحكمِ عليه، فما فعله الرئيسُ التركي وحزب العدالة من فتح لمدارس تحفيظ القرآن وبناء المساجد، ودعم الحجاب وحرية التدين، والنهوض بالاقتصاد التركي بشكل عجيب ومذهل ومثير للإعجاب، لا يعني تصويبه في كل أقواله وأفعاله، كما لا يعني أنه يُفكِّر بطريقتنا نحن، وأنه يفعل كل شيء لأجلنا، إن الرئيس التركي يقود دولة لها مشروعها الذي ينبغي علينا الوقوف معه في النقاط التي يتقاطع فيها مع مشروعنا، وننأى عنه في نقاط الافتراق التي بيننا وبينه، أما إذابة ذواتنا فيه، والحماس معه والركض من أجله في كل اتجاهاته فسوف يعود علينا وعلى أفكارنا وتصوراتنا بالضرر الكبير.
يجب علينا أن نحلم، بل لا يمكننا التقدم ما لم نحلم، لكن علينا بالرفق في كل ذلك، فالأمر كما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما دخل الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزِع من شيء إلا شانه".