لا يكون المكان جغرافيا مجردة من التاريخ، حين تكون له علاقة ـ أدنى علاقة - بالإنسان؛ فإذا كان الإنسان كائناً مكانياً كما هو كل كائن، فإنه يزيد على ذلك بوعيه بوجوده في الزمن، ومن شأن ذلك الوعي أن يجعله كائناً تاريخياً أيضاً، فالإنسان جزء فاعل في صناعة التاريخ، وهو من تصدر عنه الرؤية إلى التاريخ ومن تتوجه إليه روايته وسرده.

ولذلك فإن المكان بوصفه دلالة على التاريخ يكتسب، بدرجة أو بأخرى، غنى وثراء وعمقاً وكثافة، وقد يستحيل إلى رمز معبأ بالمعنى، لكن ليس إلى حقبة قديمة ارتبط بها في الذاكرة التاريخية فحسب، بل إلى حقبة الحاضر والمستقبل.

وذلك لأن التاريخ نفسه، لا يشير إلى الماضي مقطوعاً عن الحاضر والمستقبل، فلا وجود لتاريخ بهذه الصفة، ومن يُعنى بالتاريخ والعودة إلى الماضي، لا يفعل ذلك، إلا من لحظته الحاضرة، وبالتوجه إلى المستقبل.

هكذا هو "سوق عكاظ"، وهكذا هي كل الأماكن التاريخية، على اختلاف أسباب الاهتمام بها في الحاضر، وعلى اختلاف الآثار المادية والمعاني التي تحملها من حقب الزمن الماضي.

سهل منبسط على غير مبعدة من مدينة الطائف، تتناثر فيه شجيرات صحراوية، وتتخلله آكام قليلة من الصخور السمراء، تجُول فيه بناظريك، ولافتات الطريق في حفاوة تشير منذ انطلاقك من الطائف، إلى قدومك إلى مقر "سوق عكاظ".

ثم تدخل إلى منشآت السوق الحديثة: الأعمدة الأسمنتية، والمظلات، والخيام، والمسرح الفاره الكبير المجهز بأكثر التقنيات حداثة، وجادة عكاظ التي تمتد لمسافة كيلو متر بتصميمها ومناشطها المسرحية التي تحاكي ما كان يحدث في السوق في فترته التاريخية التي استمرت من قبل الإسلام إلى عام 129 هجرية، حين دمره أحد قواد "الخوارج" الفرقة الغالية الأشهر في التاريخ الإسلامي.

برز الاهتمام حديثاً في تأليف كتب عديدة عن سوق عكاظ، وهي مؤلفات تعود إلى ثروة المؤلفات التراثية في التاريخ واللغة والأدب والبلدانيات، لتستمد المعلومات عن الشعر العربي الذي كان السوق أحد معارض إنشاده والتباري فيه، أو عن أحداث التاريخ العربي والإسلامي بشتى مظاهره. وذلك من موقع الحاضر وأغراض المؤلفين المنبعثة عن لحظته، وعن استشرافهم للمستقبل.

وموقع أولئك المؤلفين في الحاضر، يجسد في بعض تجلياته، حساً عروبياً، وحساً وطنياً سعودياً، خصوصاً وجل الكتب المتخصصة في السوق، أو كلها، من مؤلفين سعوديين. وهو حس يترامى إلى استمداد قيمة من عمق المكان في ذاكرة العروبة والإسلام، قيمة تثري حس الانتماء. ولكنها أيضاً قيمة تستشرف الكشف عن التاريخ وعن الثقافة والقيم، من وجهة تريد تركيبها بصيغة أو بأخرى للمستقبل ضمن الهم الوطني والعربي والإنساني.

لكن التأليف الأكثر استثمارا لتاريخية سوق عكاظ، جاء بطريقة أخرى حين أقدم الأمير خالد الفيصل، بعد توليه إمارة منطقة مكة المكرمة، على بلورة ما يرويه الأمير خالد نفسه، من اهتمام والده الملك فيصل – رحمه الله - بتحديد موقع السوق، فاقترح إحياءه، وصدر بذلك أمر الملك عبدالله – رحمه الله - قبل نحو عشر سنوات.

أمام سوق عكاظ الحي لمدة عشرة أيام (بدأت بحفل افتتاحه مساء الثلاثاء الماضي) نواجه مؤلَّفاً للسوق من طراز مختلف في شكله ومؤداه. فالمؤلِّف هنا يُحضر عكاظ إلى العصر، ليزاوج بين التاريخ والعصر، ويضفي على عكاظ بعداً مستقبلياً مشغولاً بهموم وفعاليات أوسع من عكاظ التاريخ.

في عكاظ الحي هذا، تتسع دائرة الجماليات العربية وتتكيف بطبيعة العصر، فالشعر العربي، الشكل الجمالي الإبداعي الأبقى من عكاظ التاريخ، لم يعد كما كان مفاخرات ومنافرات، ولم يعد هو الشكل الأوحد الذي يمثل الثقافة في السوق، بل انضمت إليه فنون لم يعرفها عكاظ قديماً: الفن التشكيلي، والخط، والتصوير، والمسرح، والرواية، والموسيقى، والغناء والفولكلور الشعبي.

وإلى ذلك يحضر المبتكرون الذين أسهموا في إيجاد حلول إبداعية للمشكلات، أو صنعوا منتجات ناجحة، والحاصلون على براءات اختراع متميز. كما يحضر طراز من الفكر، يقوم على البحث والدراسة والتحليل، فيما تقدمه ندوات السوق المتعددة.

أصبح سوق عكاظ، مهرجاناً للفكر والأدب والفنون والابتكارات، يلتقي فيه المبدعون والمشتغلون بقضايا الثقافة والفكر، يتبارون على جوائز رفيعة، ويعرضون تجاربهم، ويشاركون في تكريم الرواد في الحقول المختلفة، ويتطارحون المشكلات، وتتاح لهم الفرصة لتقديم أطروحاتهم للنقاش والحوار.

وهو قبل ذلك وبعده، مهرجان للعموم، وليس مغلقاً لخاصة النخبة؛ مهرجان يدلل على ذاته بوصفه منشطاً للسياحة والترفيه. وهذه صفة تحفر للسوق أثراً عميقاً، بسبب كثرة الزائرين له، وما يترتب على هذه الكثرة من الحاجة إلى توسيع فعاليات السوق وتجديدها، والإفادة منها اقتصادياً.

وإذا التفتنا إلى انفتاح السوق على العالم العربي، وحضور نخب عربية في فعالياته، وفوز عديد الأسماء من مختلف البلدان العربية وأحياناً بعض البلدان الإسلامية ببعض جوائزه الكبرى، فإن دلالة السوق تكبر لتتجاوب مع رمزيته المنبعثة من أقاصي الذاكرة العربية والإسلامية.

هكذا يقدِّم إحياء سوق عكاظ، نموذجاً لقراءة التاريخ واستثماره، وهي قراءة وعت قيمة المكان من حيث دلالته التاريخية التي أصبح فيها عكاظ رمزا، واستدعت رمزيته هذه كفاءتها لدى قارئ غير تقليدي، ذهب إلى استيحائها وتفجير ينابيع ثرائها، وتأويلها بما يتناسب مع الحاضر ويترامى إلى المستقبل.

أما إذا شئنا أن نتمادى في الحلم قليلاً، وأن نتطلع إلى مضاعفة جماليات سوق عكاظ ومستقبلياته، والاتساع بها، فإن كل المؤهلات متوافرة لإحالة "سوق عكاظ" إلى مهرجان عالمي. وبوابة السياحة والترفيه هي المنفذ إلى ذلك، خصوصاً أن أجواء الطائف العليلة ونسائمه الهفهافة في الصيف تشجع على ذلك.

ومن الممكنات في هذا الصدد، استضافة فرق فولكلورية من بلدان العالم، وإقامة معارض بأسماء البلدان العربية والعالمية. وهذه تجربة نجد في القرية العالمية في دبي مثالها الأقرب، وهي جانب من الجوانب التي يمكن أن تنشط بها السياحة وأن يتسع أفق الترفيه.

ولعل من المناسب إعادة صياغة شتات الندوات والمحاضرات، لتجتمع كل عام تحت عنوان واحد من العناوين الملحّة على الفكر والثقافة، وتصبح ندوة كبرى بمحاور متعددة، تُستقبل فيها المشاركات الصالحة من المتقدمين، إضافة إلى نخبة مختارة من المتحدثين الرئيسيين.

إيه عكاظ المجد

ما أقدرك على فتح النافذة باتجاه سماء ملونة، وحقول لانطلاق عصافير البهجة!