في رحيلك عن الوطن يصير كل شيء يمر بك في طريقك علامات حنين تومض أمامك تذكرك أنك ستغيب.
ما يثير الدهشة أن أكثر الراحلين معك هم مثل ما يقال بـ"الإنقلش" So excited لأنهم مسافرون إلى لندن سياحة، بينما أنت مفارق أحبة تعدهم في كل مرة بأنك ستأتي المرة القادمة ولن تغادر لكنك تغادر.
سمعت فتاة مصرية تتحدث عن مصر وعن الحياة في أميركا كانت تبكي شوقا لوطن غادرته طفلة، تحكي للمصريين كيف تقتل الغربة الحياة في داخلك شيئا فشيئا، وكيف يبقى كل شيء في داخلك عن الوطن جميلا بكل ما يحمله ويحوطه من شعور، كيف تخبر نفسك بأن كل مشاكلك فيه لا تعادلها لحظة من الاغتراب.
إن رؤية عجوز عربي في مقعد في حديقة لندنية منحنٍ ينظر إلى الزرع وهو ينظر إلى الوطن في داخله تخيفني من الداخل، وأتساءل كيف سيعاقب الله الذين شردوا العرب في كل مكان وحرموهم من أوطانهم، كيف سيعاقب الله الذين امتهنوا الاختلاف والحروب الكلامية ليفسدوا أوطانهم، كيف سيعاقبهم الله بذنب هذا العجوز الذي تئن في داخله بيروت ودمشق وبغداد والقاهرة.
إن الاختلاف دائما موجود، لكن صوت كل فريق كان يعلو بقدر منطقية وعقلانية رأي أصحابه، اليوم اختلف الأمر في أوطاننا العربية، حيث صار كل فريق يحشد مؤيديه بقدر ما لديه من حجج عاطفية وتخيلات مستقبلية قاتمة غير واقعية تجدها في أدمغة مرضى الوساوس والاضطهاد.
من ذلك الاختلاف حول سوق عكاظ وإعادته إلى الحياة بدعوى أنه من أيام الجاهلية، متجاهلين قوله صلى الله عليه وسلم "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام"، وهذا عن الأشخاص، فلا ينكر أحد شرف وعظم الكثير ممن عاشوا، بل وماتوا قبل الإسلام، وكذلك الأحداث مثل حلف الفضول.
وسوق عكاظ الذي ثبت أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حضره، حيث كان السوق مكاناً يخطب فيه الناس ويتنافسون في الخطابة، فكان صلى الله عليه وسلم يعرض دينه في هذه الخطب التي استمع له فيها بضعة رجال من يثرب، فكان سوق عكاظ فاتحة خير على الأمة الإسلامية.
سوق عكاظ كان من أهم أيام السلام العربية، لذا كان يعقد في الأشهر الحرم، وهو في الواقع حدث اقتصادي صار الشعر والخطابة سفيريه، ولو نظرنا حاليا للعالم من حولنا تجد أن لديهم مهرجانات ظاهرها الفن والموسيقى وباطنها عقود اقتصادية ضخمة، بدءا من تشجيع السياحة والتبادل الصناعي في الأفلام والملابس... إلخ.
لدينا في السعودية الجنادرية، لكنها حدث لتعريف العالم بتقاليدنا وعاداتنا، لكن عكاظ يختلف أنه يؤطر لعودة الجزيرة العربية ممثلة في السعودية كقائد ثقافي للأمة العربية كما كانت دائما بالنسبة لكل عربي.
كما أنه كحدث عظيم ألقى الضوء على اللغة العربية ممثلة في الشعر، فإسماع الشبيبة شعر المعلقات وما شاهدناه في الجادة من عروض تحلق حولها الصغار والكبار هي إعادة حياة للثقافة العربية لمواكبة العصر، وهذا كافٍ جداً لنتفاءل بغد عربي يفخر بثقافته.
سوق عكاظ لا يجب أن يكون محل خلاف إلا في كيف نطوره ونجعله عالميا ليس لأجل السعودية، بل لأجل الأمة العربية والإسلامية.