في عرس سوق عكاظ، أطل محمد عبده على العرب بصوته الشجي القوي المتفرد الذي ترعرعت عليه حواسنا، وصعدت به ذائقتنا، وتربت عليه مفرداتنا الموسيقية..

بمجرد وقوفه على صخرة عكاظ وهو يردد جزءا من معلقة الملك الضليل:

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل = وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي..

أغرك مني أن حبك قاتلي= وأنك مهما تأمري القلب يفعل...                

تحولت المدرجات إلى هتاف يكاد ينطق (الله عليها عودت) ليالي البهاء والألق والحضور القوي الذي أسسه (دائم السيف)، وحافظ عليه فنان العرب.. عاد وكأنه يقول (أخالف العمر أراجع سالف أعوامي). اكتملت باقة الورد المقدمة في المساء الطائفي المعتاد كل عام، وأجبرنا محمد عبده على أن نقول له كل ذات غناء: (الأماكن كلها مشتاقة لك)..

نعم تشتاق له الأرض، صوته وحضوره وإحساسه. حين وقف على مسرح عكاظ فلكأني أسمع وأرى (مسرح المفتاحة) يقول له: ما يسد مكانك غيرك أحد بدالك باني لك قصور وباني لك خيام..

مع محمد عبده صعدنا فوق (هام السحب)، ولا نريد الهبوط للموجة التي اجتاحت الذائقة التي تسمى (الشيلات)..

من اعتاد على حس الفنان الحقيقي لن يرضى بمستوى أقل. إذا لم نسمع شيئا بهذا المستوى فنفضل الصمت في حضرة جمال هذا الصوت الفخم.. ولا نريد أن ندخل في دائرة (المعاناة)، ونسير خلف الفنون المنزوعة الحس فقط من أجل سد الفراغ وحشو الفقرات والفعاليات بأي صوت وأي عمل..

الفن والغناء تحديدا يحاكي الحاسة الأولى للإنسان وهي السمع.. لذلك استوطن محمد عبده قلوب العرب، وأصبح فنانهم الأول، لا نشعر بطعم العيد ونكهته إن لم نصح صبيحته ونحن نسمع (ومن العايدين ومن الفائزين)..

ما أتمناه:

أن نمتلئ بهذا الصوت القوي، ونملأ به مسارحنا وفعالياتنا وأفراحنا الوطنية، ولا نلتفت لمن يريدون نشر الموت في الطرقات، وتحويل مناسباتنا إلى برامج جنائزية تقتل فينا حب الحياة وحب الفرح..

لمحمد عبده أقول: لا تتبع منهج (لذة الحب بالشيء القليل) فقط، قس المسافة بين قلوبنا وصوتك، واعلم أنك الأقرب والأول، وابق عاليا مرتفعا كالذي استل جناحه ثم حام يرقى على متن الهواء والهوى.