الأئمة المجددون المصلحون، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.

ومن أبرز هؤلاء الأئمة الصالحين المصلحين، الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، الذي وفقه الله تعالى لدعوة التوحيد الإصلاحية، التي أعادت للإسلام في الجزيرة العربية قوته وصفاءه، وطهر الله بها الجزيرة من البدع والشركيات التي كانت موجودة آنذاك، في بعض المواقع، وكان من أعظم أسباب نجاح هذه الدعوة المباركة، أن هيأ الله لها حكاما آمنوا بها، وآزروا دعاتها، وهم الحكام من آل سعود بدءا من الإمام محمد بن سعود ثم أبنائه وأحفاده من بعده. وقد أمضى الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله حياته كلها داعيا إلى التوحيد الخالص، ومن قرأ كتبه رأى ذلك عيانا بيانا. فكتابه (كتاب التوحيد) من أنفع الكتب المصنفة، كأنه قطعة من صحيح البخاري، ليس فيه إلا قال الله، وقال رسوله عليه الصلاة والسلام، وفوائد مستنبطة من النصوص الشرعية غاية في الدقة والفائدة والنفاسة. وهكذا سائر كتبه، ومنها: (الأصول الثلاثة) و(القواعد الأربع) و(كشف الشبهات)، و(الأصول الستة) وغيرها، كلها تصل القارئ بالكتاب والسنة، بأسلوب سهل مقنع، ولو أن من ينتقد دعوة هذا الإمام المبارك، وحجته: سمعت الناس يقولون شيئا فقلته، لو أنه أرجأ نقده إلى أن يطلع على هذه الكتب، لكان من جملة الداعين له، المدافعين عنه. فهو ـ رحمه الله ـ من الدعاة إلى الله على بصيرة، وما يقال إن لديه غلوا في التكفير، غير صحيح، ولا يقوله من عرف التوحيد، وعرف الشرك، نعم قد يقوله: صاحب هوى، يرى أن هذه الدعوة أزالت عنه عرضا من الدنيا، أو يقوله كذلك: من جهل التوحيد، وظن أن من أقر بوجود الله، وربوبيته، فهو من أهل التوحيد، وإن أشرك مع الله في عبادته، وطاف على القبور والأضرحة. والمشركون في زمن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقرون أن الله هو الخالق الرازق النافع الضار، لكنهم يتخذون معه وسائط، ويطلبون المدد والزلفى من أهل القبور والأضرحة ونحوها، ولم يخرجهم ذلك من الشرك، كما في قوله تعالى (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ * كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فسقوا أنهم لا يؤمنون). والدارس لمنهج الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله يعلم يقينا أنه: لم يكفر مسلما قط، وأتحدى أن يأتي أحد بدليل من كتبه رحمه الله أنه كفر مسلما بغير حق. هذا لا وجود له في كتبه، وهو رحمه الله: لا يكفر إلا من كفره الله ورسوله، كمن عرف دين الله ثم سبه، وكفر به، فهذا تكفيره محل إجماع بين أئمة الإسلام، يقول رحمه الله: (وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول ثم بعد ما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله، فهذا هو الذي أكفره، وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك، وأما القتال فلم نقاتل أحداً إلى اليوم إلا دون النفس والحرمة، وهم الذين أتونا في ديارنا، ولا أبقوا ممكنا).

لقد كان مهموما ـ رحمه الله ـ بالدعوة إلى التوحيد، حريصا على هدايتهم، لا على تنفيرهم، كان ينظر إلى بعض الجهلة يطوفون على قبر زيد بن الخطاب، ويطلبون منه المدد والزلفى، فكان يقول: (الله خير من زيد)، يربطهم بالله، ويتلطف بدعوتهم، ويصبر عليهم، قال عن بعض خصومه: (وإذا كانوا أكثر من عشرين سنة يقرون ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، أن التوحيد الذي أظهره هذا الرجل هو دين الله ورسوله). فانظر: هذا الصبر العظيم، وهذه الرحمة بالمدعوين، أكثر من عشرين سنة، وهم يسمعون تقريره للتوحيد، ويعرفون أنه حق، ومع هذا يعاندون، فيقابل هذا العناد بالتلطف بهم، والدعاء لهم حتى في سجوده، يقول  لأحدهم: (إني أدعو لك في سجودي، وأنت وأبوك أجل الناس إليّ وأحبهم عندي). ويبدأ رسائله بالدعاء للمخاطب، فيقول (اعلم رحمك الله...)، وفي رسالة أخرى يقول: (اعلم أرشدك الله لطاعته...) وهكذا في رسائله، فهو يدعو الله للمخاطبين، لأنه حريص على هدايتهم، لا على تكفيرهم. ولذلك فهو من أعظم الناس ورعا وتحرزا، لاسيما  في مسائل التكفير، حتى إنه لم يكفر إلا بالمتفق عليه، دون المختلف فيه، يقول رحمه الله (ولا نُكفّر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو الشهادتان، وأيضا نكفّره بعد التعريف إذا عرف وأنكر). ويقول: (وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على  قبر عبدالقادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من ينبههم). فهو يعذر بالجهل كما في قوله (لأجل جهلهم).

ولهذا قال عنه حفيده الشيخ عبداللطيف، الذي هو من أعلم الناس بحاله وأقواله: (الشيخ  محمد –رحمه الله– من أعظم الناس تَوَقُّفًا وإحجامًا عن إطلاق الكفر، حتى إنه لم يجزم بتكفير الجاهل الذي يدعو غير الله من أهل القبور أو غيرهم إذا لم يتيسر له من ينصحه أو يبلغه الحجة التي يَكْفُر تَارِكُها). ولم يكن رحمه الله مستبدا برأيه، وإنما يطلب الحوار، ويتعهد بقبول ما دل الدليل عليه، فيقول: (كل إنسان أجادله بمذهبه، إن كان شافعيا فبكلام الشافعية، وإن كان مالكيا فبكلام المالكية، أو حنبليا أو حنفيا كذلك، فإذا أرسلت إليهم ذلك، عدلوا عن الجواب، لأنهم  يعرفون أني على الحق وهم على الباطل، وإنما يمنعهم من الانقياد التكبر والعناد... إلى أن قال رحمه الله: وأنا أشهد الله وملائكته إن أتاني منهم حق لأقبلنه على الرأس والعين). ويقول أيضا: (وأنا أدعو من خالفني إلى أحد أربعة: إما إلى كتاب الله، وإما إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم،  وإما إلى إجماع أهل العلم، فإن عاند دعوته إلى المباهلة...). يقول ذلك لكونه على بينة وثقة وبصيرة بما يدعو إليه، فهو لم يدع الناس إلى عرض من الدنيا، بل دعاهم إلى ما فيه سعادتهم ونجاتهم، وهو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له. إذا كان الأمر كذلك، تبين أن تنقص هذه الدعوة، هو من غارات الجياع. فإن قالوا هناك من التنظيمات المتطرفة، من لديه بعض كتب الإمام محمد، ويستدل ببعض ما فيها؟ فهي حجة داحضة، فالقرآن الكريم أيضا لديهم، ويستدلون ببعض آياته، والعيب فيهم، وفي فهمهم السقيم، لا في كتاب الله، ولا في كتب أهل العلم الراسخين، ومنهم الإمام محمد. والخوارج وجدوا في زمن الصحابة، وزمن الدولة الأموية والعباسية وما بعدها، أيقولون إن ذلك أيضا: بسبب كتب الإمام محمد بن عبدالوهاب، ودعوته؟! ثم إن هذه التنظيمات الهالكة، أنشأها أعداء الإسلام، للكيد للإسلام وأهله، فما علاقة الإمام محمد بن عبدالوهاب، ودعوته بها؟

فإن قالوا هناك نقولات لبعض أتباعه في الدرر السنية، أو الكتب التاريخية، وغيرها يفهم منها التشدد والتكفير، فهي حجة داحضة أيضا، فلو سلمنا جدلا بصحة وجود ذلك، فإنه لا ينسب للإمام خطأ غيره، بل خطأ غيره، مردود على صاحبه، كما لا ينسب خطأ أي صحابي للنبي عليه الصلاة والسلام، ولهذا فإن خالد بن الوليد أخطأ وقتل بني جذيمة، ولم ينسب ذلك الخطأ للنبي صلى الله عليه وسلم ولا إلى دعوته. مع أن غالب ما ينسب لعلماء الدعوة  في "الدرر السنية" وغيرها، هي رسائل وإجابات لم نطلع على السؤال، والواقع الذي كان بموجبه صدر الجواب، والعالم يفتي بناء على السؤال، بغض النظر عن صحة واقع السؤال. كما أن كثيرا من الحوادث التي يتكلم عنها علماء الدعوة، لا نعرف تفصيلات حوادثها ووقائعها.

والمقصود: أن علم أئمة الدعوة يؤخذ من كتبهم المصنفة لغرض إفادة الناس عموما، وأما الكلام المشتبه، من الردود والإجابات الشخصية، التي قد تكون لسائل خاص، ولواقع خاص ربما ذكره السائل ولم نطلع عليه، أو لم يذكره لعلم العالم به، فإنه يرد إلى المحكم، هذه طريقة الراسخين في العلم، وأما الذين في قلوبهم زيغ، فيتبعون ما تشابه في كتب الردود والمسائل التي لا يعرفون وقائعها، وحقيقتها، فيفرحون به، ويشوشون به على الناس، ابتغاء الفتنة، ليدحضوا الحق بزعمهم، وليثيروا الجهال على هذه الدعوة المباركة، التي نتفيأ ظلالها. وبعض أعداء الإسلام، يصعب عليهم الطعن في دين الإسلام صراحة، فصاروا يكيدون للإسلام من خلال طعنهم  بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، لعلمهم أنها هي الدعوة الصحيحة التي تمثل الإسلام، ولذلك يعادونها ويزعمون أنها الأصل للحركات المتطرفة كداعش وغيرها، مع تيقنهم أنها برئية من ذلك، بينما الأحزاب والجماعات المنتسبة للإسلام، وغير المنتسبة للإسلام، لا يتهمونها بذلك، بل قد يتعاونون معها ويدعمونها، لعلمهم ببعدها عن التوحيد الخالص، وهذا البعد يسرهم،لأن عداءهم هو للدين الخالص، لا للأحزاب المحدثة، قال الله تعالى: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا). ولكن الله غالب على أمره، وناصر دينه، وعباده المؤمنين. كما قال تعالى: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد). اللهم اجز عنا الإمام محمد بن عبدالوهاب خيرا، واجمعنا به مع نبينا عليه الصلاة والسلام في جنات النعيم.