هناك نظرية نقدية رائعة، أعجبتني وتعجبني دائما، وأتفق معها، مضمونا، ألا وهي نظرية "موت المؤلف".

تقول هذه النظرية وببساطة: إن العمل الإبداعي الجيد ليس من الضرورة أن تكون له ملكية فكرية فردية، وإنما هو ملك للمجموع، ملك للقارئ، فليس مهما من كتب العمل الإبداعي، وإنما المهم هو العمل الإبداعي نفسه، بعيدا عمن يكون مؤلفه أو مالكه الفكري، وبهذا تكون حياة الكلمة وموت مؤلفها.

الكل يعرف بيت الشعر العامي الشهير:

"تكفى ترى تكفى تهز الرجاجيل

لولا صروف الوقت ما قلت تكفى"

فهذا البيت الإنساني الجميل، لا أبالغ إن قلت إنه أشهر بيت شعر عامي على الإطلاق، فهو يُتداول على ألسنة الناس، صغيرهم وكبيرهم، مثقفهم وعديم الثقافة منهم، محبهم للشعر وغير المهتم، وقد فوجئت جدا، عندما شاهدت مقاطع فيديو لبعض أشقاء الإنسانية، من مصر والهند والبنغال، ممن يعملون في المملكة، وهم يرددون هذا البيت، على منصة "يوتيوب"، وكأنهم يتواجدون معه، فهما وإحساسا.

كلهم يرددون البيت، ولا يعرفون من شاعره، كلهم مع المُنتج ولا يعرفون المؤلف، هو بالنسبة لهم غير موجود، وفي حكم الميّت، وتلك نظرية موت المؤلف، في شكلها البسيط.

شاعر البيت هذا، هو المبدع المعروف محمد الدحيمي، وهو أكثر شاعر مسروق في محيط الشعر العامي، إذ يتناقل الناس قصائده، ويجيرونها لأنفسهم، مثلما حدث له مع هذا البيت، إذ زعم شعراء كثر أن البيت لهم، كي يلتمسوا قبسا من نار هذا البيت الشهير، حتى ولو بالكذب.

قبل أيام، عاد الشاعر المسروق نفسه، إلى واجهة المشهد عندما سطا على شعره مجموعة من الشعراء، ونسبوا الأبيات التالية إليهم، وهي موثقة في حساب الدحيمي في "تويتر":

"كانت وكنّا ولا زالت مرابعها

في وسط صدري وعاد الشوق ما تغيّر

ما غير أغنّي إذا مريت شارعها

واقف على بابكم ولهان ومسيّر"

وكذلك أبياته القائلة:

"كريم لكن ماني بحاتم الطيّ

طاغي ولكن حظّي اشدّ واطغا

من لا يقدرني وانا عادني حيّ

مابغا يقدرني إذا مت مابغا "

الدحيمي تجربة شعرية كلاسيكية كبيرة، وهو تميز في أصعب جيل، جيل الرشيدي وصقر والمانع ومهدي، وغيرهم من كتاب القصيدة العمودية، الذين كانوا هم كعكة المشهد بالكامل، ولا سبيل لسواهم أن يتميز أو تُشعّ شمسه، ويظل الدحيمي مثار جدل، في أبياته التي تُسرق من بين يديه، ومن قلبه، دون أن يجد من يحمي ملكيته الفكرية.

قلتها قبل عام: إن الشاعر العامي الوحيد الذي من الممكن أن يكرر عملقة ابن جدلان الشعرية، هو محمد الدحيمي، وأعيدها اليوم، وكل يوم.