روسيا تخسر في حلب، هذه وقائع ميدانية وأخبار قادمة من الأرض، قد تكون الخسارة مؤقتة، وقد تتمكن من كسب جولة تالية، وقد يتمكن طيرانها من تضييق الخناق على المقاتلين في حلب، ولكن الخسارة وقعت، بالطبع ندرك أن الحرب جولات وسجال، ولكن بمقاييس دولة عظمى، وبحجم الجيش الروسي، وحجم الإصرار الروسي على تحقيق نصر ما في الشمال السوري، فإن خسارة روسيا لهذه الجولة هي خسارة حقيقية، لا يمكن التعامل معها ببساطة. قبل أسبوع كانت روسيا قد خسرت طائرة بطاقمها المكون من خمسة جنود، وهي أكبر خسارة تمنى بها روسيا منذ دخولها في أتون الحرب السورية في سبتمبر من العام الماضي، وهذه الخسارة ليست بقيمة الطائرة وبعدد الجنود القتلى (وهو عدد كبير بالقياس إلى إمكانات روسيا وإمكانات من تحاربهم)، ولكنها خسارة تقاس بحجم اللغط الذي أثارته ردود الفعل المتنوعة التي تسببت فيها حادثة سقوط الطائرة، فشريحة كبيرة أدانت عملية سحل جثة الطيار الروسي، واعتبرت أنها تخالف قواعد الحرب، وتخالف الاتفاقات الدولية، وقبل ذلك تخالف تعاليم الدين في التعامل مع الأسير ومع جثة العدو، وكذلك تمس حرمة الجسد البشري وقداسة الموت، وآراء أخرى اعتبرت أن أي شيء مباح في التعامل مع الروس بسبب ما فعلوه ويفعلونه من قصف جوي عشوائي للمناطق السورية المختلفة لا سيما في محافظة إدلب حيث وقعت الحادثة، والمشهد الذي تم تصويره ونشره على نطاق واسع كان يعني فيما يعني سحلاً لهيبة روسيا على تراب إدلب، فهذه الإمبراطورية الكبرى التي تملك ثاني أكبر جيش في العالم، وثاني أكثر تكنولوجيا تقدماً، وتملك أسطولاً متطوراً وضخماً من الطيران الحربي، خسرت بطريقة بدائية أمام فصائل صغيرة تقاتل بطريقة أقرب إلى حرب العصابات، ورغم ذلك تمكنت من إسقاط طائرة، يفترض أنها عصية على المضادات المتطورة التي تملكها الجيوش النظامية المتقدمة.
قبل ذلك كان الجيش الروسي خسر بضع معارك هنا وهناك، وحين نقول الجيش الروسي لا نقصد العمليات التي يشارك بها كداعم لجيش النظام السوري جويا، بل العمليات التي يخوضها بشكل مباشر وشبه منفرد، فالجيش الروسي الذي دخل سورية بقوات جوية فقط، أصبحت لديه قوات برية مكونة من مجموعات مختارة من جيش النظام السوري وقواته الرديفة تأخذ أوامرها من القيادة الميدانية الروسية، وتتبع نظرياً فقط لقيادة الجيش السوري. ولكن كل هذه الخسائر ومهما توسعت واستطالت وامتدت ليست الخسائر الحقيقية الروسية، فالخسائر الحقيقية التي منيت بها روسيا بسبب دخولها في الحرب السورية، هي خسارة صورتها وهيبتها في العالم، فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية ارتبط اسم روسيا (الاتحاد السوفيتي) في إعلام العالم الثالث بأنها الدولة النصيرة للضعفاء والفقراء والشعوب المقهورة، وأنها الدولة العظمى التي تقف بحزم في وجه الدول الغربية حين كانت هذه الدول دولاً استعمارية، وقد لعب الاتحاد السوفيتي في النصف الثاني من القرن العشرين دوراً كبيراً في استقلال عدد من الدول، وفي دعم مشاريع تنموية وبناء جيوش، لا سيما في الدول الأكثر فقراً والتي كانت تدور في الفلك الشيوعي قريبةً (مثل كوبا وكوريا الشمالية..) أو بعيدة عن مركزه (مثل سورية والجزائر وليبيا...)، وظل لروسيا هذا الانطباع عند الكثير من الشعوب، ومع دخولها في الحرب السورية بهذا الشكل السافر، ودعمها اللامشروط لنظام بشار الأسد الذي امتلك خلال 5 سنوات أكبر سجل إجرامي في قتل الأبرياء وتدمير المدن والقرى، وقهر شعبه، وانخراط روسيا معه لهذه الدرجة أصبحت الخسارة الأكبر لروسيا التي ستلتصق بها لزمن طويل. والخسارة الكبرى الثانية هي أن روسيا التي تعتبر نفسها إمبراطورية كبرى، نزلت إلى مستويات منخفضة عبر ممارستها لألاعيب في مساحات ضيقة، فهي تخوض المعارك مع مجموعات لا يتعدى مقاتلوها بضع مئات، وتسيطر على مساحة بضعة كيلومترات، وحين تريد أن تناور في السياسة، فهي تراهن على سياسيين لا يمثلون سوى أنفسهم، وعلى مجموعات سياسية تحمل أسماء أحزاب وتحالفات ولكن أعضاءها لا يتعدون العشرات، وفي هذا الجانب تحولت روسيا بكل هيبتها وضخامتها إلى فرع صغير من المؤسسة الأمنية السورية، وفي أحسن الحالات إلى مديرية في وزارة المصالحة الوطنية السورية.
في النهاية لا بد من الاعتراف بأن ما تفعله روسيا بنفسها مفرح لنا، وهو يسير في الطريق الصحيح، طريقنا نحن.