لظرف شخصي طارئ، لم أتمكن في اللحظات الأخيرة من تلبية الدعوة الكريمة لحضور تظاهرة عكاظ الثقافية التي ابتدأت مساء البارحة. مخطئ جدا من يظن أن سوق عكاظ في ثوبه الحديث مجرد مبارزة ومطارحة شعرية تنتهي بتتويج الفائز ببردة عكاظ في نهاية الحفل الافتتاحي. مخطئ أيضا من يظن أن تظاهرة سوق عكاظ هي مجرد الأمسيات والندوات الرسمية المطبوعة في برنامج اللقاء. تظاهرة عكاظ الثقافية الحقيقية هي عشرات الجلسات غير الرسمية والمفتوحة بين أطياف ومدارس الكتلة الثقافية العربية في كل زوايا الفنادق والمقاهي، وفي غرف الضيوف التي تتحول كل مساء إلى ما يشبه الصوالين الثقافية التي تتلاقح أفكارها وتتقابل وتتعارض في كل شيء دون سقف أعلى لحرية التعبير، ودون خط أحمر لما يمكن أن يطرح للنقاش.

عكاظ هو الصورة السعودية الحديثة التي تقف في وجه "التابوه" وفي وجه الصورة النمطية المنسوخة بالتشويه المتعمد للمثقف وللمشهد الثقافي السعودي.

سأحيلكم إلى قراءة اللقطة التالية: غادرت عكاظ والطائف قبل ما يقرب من ست سنوات بصحبة الفائز ببردة عكاظ في سيارة واحدة إلى مدينة جدة. كنت أمازحه يومها مهنئا بالبردة التي ستنام ديكورا في دولابه، حيث لا مكان لها في حياته "الشامية" المترفة، ولا وجود لها يمكن أن يكون فوق بدلة "السموكنج" الرمادية الأنيقة التي ظهر بها فائزا على خشبة المسرح، لكنه أخذني مباشرة إلى محمل الجد وهو يقول: لقد خرجت منكم بأكثر من هذه البردة. خرجت مندهشا من حجم وكثافة وعمق الجسد الثقافي السعودي الذي لا يباريه اليوم كتلة موازية في عواصم الثقافة العربية التقليدية من بيروت ودمشق وإلى القاهرة. شاهدت العشرات من السعوديين الذين ابتعثوا إلى أرقى جامعات الدنيا، وكان لدي انطباع خاطئ أنها مجرد "إنتجلنسيا" رأسمال متورم منتفخ. يواصل: أخرج من عكاظ مندهشا من حجم الحرية وسقفها الواسع البعيد على عكس الصورة الذهنية الراسخة بتكلس وتشويه في مخيال الوجدان الثقافي العربي عن هذه الحرية وارتفاع هذا السقف، وقد أذهلني ذلك الحوار المفتوح بأسئلته الصريحة بين ضيوف عكاظ وثلاثة أمراء مع وزيرين أمامهم على خشبة الندوة الرئيسية. كنت أظن أنني جئت إلى ندوة متخصصة تهدف إلى إحياء سوق تاريخي للمعلقات قبل أن أكتشف أن الشعر هو الغائب الوحيد حين استأثرت هموم الثقافة السعودية والعربية المعاصرة بكل شيء في الحوارات الرسمية واللقاءات الكثيفة خارج الجدول.

الخلاصة أن تظاهرة عكاظ هي الوجه الحقيقي لتسويق الصورة السعودية الحقيقية: صورة المستهلك الجديد المسيطر على سوق الكتاب والثقافة العربية، وأكبر مستخدم لفضاءات "السايبر" الإلكتروني. انتهت المساحة.