الخرائط الفكرية ترسم الجغرافيا التي يرى الإنسان فيها ذاته والآخرين في العالم. الخريطة الدينية للعالم ترسم الحدود بين الجماعات بناء على المعتقدات الدينية. الخريطة العرقية أو اللغوية ترسم الحدود بين الناس بناء على أعراقهم ولغاتهم. كذلك الخريطة الوطنية ترسم الحدود بناء على حدود الدول الوطنية الحديثة. هذه الخرائط تحتاج دراسة ومراجعة على الأقل من جهتين. الجهة الأولى تتعلق بطبيعة تلك الخرائط باعتبار تاريخيتها، الدوافع الأيديولوجية خلفها، وتعددها وما ينتج عنه من تراتبية وعلاقة قوى. هذه كانت قضايا المقالات السابقة. اليوم ننتقل للقضية الثانية وهي بحث الآثار الناتجة عن تقسيم الجماعات الإنسانية. ما العلاقات التي تنشأ بين تلك الجماعات؟ تركيزي سينصب على الآثار الأخلاقية المرتبطة بالعدالة التي تنتج عن تقسيم الناس لجماعات مختلفة.
الخرائط الفكرية تنتج دوائر الذات والآخر، وتدفع باتجاه تصورات معينة للعلاقة بين الطرفين. لتوضيح هذه الفكرة سأستخدم مثال الآثار المترتبة على التقسيمة الوطنية تحديدا بين ثلاث جماعات: جماعة المواطنين، جماعة المقيمين، وجماعة غير المواطنين وغير المقيمين. في السعودية تكون التقسيمات كالتالي: جماعة السعوديين، جماعة غير السعوديين من المقيمين في السعودية وجماعة الآخرين من غير السعوديين الذين لا يقيمون في السعودية. ما الحقوق والواجبات لكل جماعة، وكيف تأثر الفروق المتعلقة بالوطنية في استحقاقات الآخرين؟ هذه الأسئلة التي تكشف التصورات الأخلاقية الناتجة عن التقسيمات السابقة. لإيضاح الفكرة سأحاول استعراض نموذجين حادين للإجابة عن السؤال السابق: في الطرف الأول نجد الوطنية المتطرفة أو حتى الشوفينية التي توسع الفرق بين المواطنين وغيرهم. هذه الأطروحة تدفع دائما في تمييز المواطن عن غيره في كل شيء، لدرجة قد تهدد حصول غير المواطن على حقه. هنا حق المواطن مقدم على حق غير المواطن. التيارات اليمينية تلعب كثيرا على هذا الوتر، فالأجانب هم دائما سبب مشاكل المواطن. في الاتجاه الآخر هناك أطروحات تقول إن الجنسية عامل غير مهم في مسألة الحقوق. الكثير يتفقون أن القضاء مثلا يفترض ألا يميز بين الناس بحسب جنسياتهم حين يفصل في قضاياهم، لكن هناك من يأخذ هذا المبدأ لدرجة أبعد في مجالات أخرى. مثلا في موضوع اختيار الأساتذة في كثير من الجامعات الأميركية لا يصح استخدام عامل الجنسية ضمن حسابات الاختيار، فلا يصح تقديم مرشح على غيره بسبب أنه أميركي والآخر غير أميركي. في الوسط هناك أطروحات منتشرة جدا تقبل تمييز المواطن على غير المواطن ما دامت الحقوق الأساسية لغير المواطن قد تمت كفالتها كقبول إعطاء الأولوية للمواطن على غيره في الوظائف. السؤال هنا يستمر عن المقصود تحديدا بالحقوق الأساسية واختلافها من سياق ثقافي وقانوني إلى آخر. في سياق هذه الحقوق الأساسية تشمل حقوق الإنسان كحق التعبير والاعتقاد والتنقل...الخ، في سياقات أخرى هذه الحقوق لا تتجاوز بنود العقد الذي يوقعه غير المواطن عند القدوم.
قضية أخرى توضح الآثار الأخلاقية المترتبة على الخرائط الفكرية هي الواجبات المترتبة على الشعوب الغنية تجاه الشعوب الفقيرة. في كثير من الدول تتم إعادة توزيع الثروات من خلال فرض ضرائب على الأغنياء تذهب للخدمات العامة وللفقراء مباشرة. هذا الالتزام ناتج عن شراكة هؤلاء جميعا في عقد سياسي واحد. السؤال هنا يرتبط بعلاقة الأغنياء بالفقراء خارج حدود الوطن. هل على الشعوب الغنية واجب أخلاقي لمساعدة الشعوب الفقيرة، وهل يمكن تحويل هذا الواجب الأخلاقي لواجب قانوني؟ الإجابات أيضا متعددة: في الطرف الأول أطروحات تؤكد على عدم عبور الحقوق مع الحدود وأن الالتزام يجب أن يكون لجماعة المواطنين لا غيرهم. في المقابل هناك من يطرح فكرة التعامل مع الشعوب المختلفة كمواطنين في بلد واحد، مما يجعل من الواجب على الشعوب الغنية دفع ضرائب للتحسين أحوال الشعوب الفقيرة. في الوسط هناك من يقول بالتزام محدود تجاه الشعوب الفقيرة تحدده الحقوق الأساسية. فيجب على الشعب الغني مساعدة جاره الفقير إذا مر بمجاعة أو كوارث طبيعية أو حروب أهلية، لكنهم لا يمددون هذه الاستحقاقات متى ما تمت تلبية الحقوق الأساسية للشعوب الفقيرة.
كانت هذه أمثلة لإيضاح الدلالة الأخلاقية والحقوقية للتقسيمات السياسية. التقسيمات الدينية والعرقية والثقافية لها ذات الدلالات. ما حقوق الفرد من جماعة دينية مختلفة؟ وهل عملية تحديد هذه الحقوق عملية تعاقدية أم عملية من طرف واحد؟ ذات الأسئلة توجه للتقسيمات العرقية والثقافية. قضايا الأقليات الدينية والعرقية في العالم نموذج لهذه الإشكالات. ربما السؤال الدقيق الذي سيساعدنا على فحص الخرائط الفكرية هو مدى تأثيرها على معنى المساواة بين الذات والآخر. إلى أي مدى تجعل تقسيماتنا الفجوة الحقوقية بين الذات والآخر أكبر أو أصغر؟ هل تدفع تلك الخرائط في اتجاه المساواة بين الناس أم تدفع باتجاه التفرقة بينهم وتبرير سيطرة بعضهم على بعض. بشكل آخر نتساءل هنا عن أثر الخرائط الفكرية من خلال تركيزها على الاختلاف في إخفاء التشابه والتشارك بين الناس. الخرائط الفكرية قد تكون حجابا يجعل من رؤية الآخر أصعب وأكثر تشويشا، لذا فإن مساءلة موقف هذه التقسيمات من الآخر مهمة أخلاقية. الخطة هنا أن تكون المقالات القادمة محاولة لفهم هذه الإشكالات.