كعادتنا لا بد قبل كل منطوق ومكتوب أن نحترز بتحفظات تجاه من يسيء الفهم من قاصريه والمتربصين به والمزايدين عليه، وذلك كأن يقال إن "العقل هو الخلاص"، فيأتي من يقول إن هذا العنوان يعني تقديم العقل على النقل، وربما يصل البعض بسوء التفسير إلى تهمة "المعتزلة"!

ولذا أقول بأن العقل هو الراضخ للشريعة الإسلامية الغراء وليس العقل المطلق عن ثوابت الدين وحتى ثوابت الدنيا، فبالعقل يكون التكليف الشرعي وبعدمه تسقط التكاليف الشرعية، وبه نَعلم ونتعلم ونُعلم، ولكن المراد في مقالي هذا ليس العقل التقليدي، وإنما العقل التجديدي الذي نحتاجه دائما وفي هذه المرحلة على وجه الخصوص.

في كل يوم تزداد أعمارنا وتنمو عقولنا بقراءاتها ومشاهداتها وخبرة الحياة المتجددة، لا سيما عند الاختلاط بالعقول الأخرى عبر الجغرافيا الكونية، فيدرك العاقل حقا أن هناك قصورا فضلا عن التقصير يحتاج لعلاج يصلح به الدين والدنيا، وبالتالي فإن الشعارات القديمة التي كانت تدغدغ عواطف الجماهير لم تكن سوى للخداع ولمصالح من أطلقوها حزبيا وشخصيا، ومن ذلك شعار (الإسلام هو الحل)، وهو شعار حق ولكن قد يراد به باطل، ثم من هو الذي يزعم أنه يملك النسخة الأصلية للإسلام ويقدر على تطبيقها حتى يجازف بمثل هذه الوعود؟!

ولذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا بعث أميرًا على جيش أو سريّة، أوصاه في خاصّة نفسه بتقوى اللّه ومن معه من المسلمين خيرا، ثمّ قال لهم: "اغزوا بسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تغلّوا، ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو ثلاث خلال: ادعهم إلى الإسلام، فإن قبلوا فكفّوا عنهم، واقبل منهم، وادعهم إلى التّحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا لهم ما للمهاجرين، وأن عليهم ما على المهاجرين، وإن دخلوا في الإسلام واختاروا دارهم، فأخبرهم أنهم كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله ما يجري على المسلمين، ولا يكون لهم من الفيء والغنيمة شيء إلا أن يجاهدوا معهم، وإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن قبلوا فكفّ عنهم واقبل منهم ذلك، وإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوا أن تجعل لهم ذمّة الله وذمّة رسوله فلا تجعل لهم ذمّة الله ولا ذمّة رسوله، ولكن اجعل لهم ذمّتك وذمّة أصحابك؛ فإنك إن تخفر ذمّتك وذمّة أصحابك خير لك من أن تخفر ذمّة الله وذمّة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوا أن ينزلوا على حكم الله فلا تجعل لهم حكم الله، ولكن اجعل لهم حكمك وحكم أصحابك، فإنك لا تدري هل تصيب فيهم حكم الله أم لا؟"، قال مقاتل: فنظرت فيما فتح من أرض خراسان في عهد عمر وعثمان -رضي الله عنهما- فلم أجد في شيء منها ذمّة الله ولا ذمّة رسوله، إلا ذمّة الإمام وأصحابه ممّن معه من المسلمين.

وعلى هذا فلا يجوز لجماعة أو حزب أو شخص أن يعتدي على ذمة الله ورسوله عبر ما يزعمه من أن رأيه هو الحق لا سواه وأنه هو الإسلام دون غيره، وحينما يفشل فيه أو يخادع به فيسيء للدين وأهله ولو بحسن نية، ولذا كم رأينا من الناس من أساء الظن بعدالة الإسلام بسبب سوء تصرف بعض الأفراد والجماعات، ويجب علينا جميعا أن نتناصح ونتعاون على البر والتقوى وليس بأن نتعاون على الإثم والعدوان، كما هو واقع للأسف، في كثير من البلاد العربية والإسلامية.

والأسوأ من ذلك أن نحتكر الحق ونصادر الآخر، ونزعم بأن الحق كله معنا، ونجزم بأن ما نراه هو ضمن الأجرين (أجر الاجتهاد وأجر الصواب)، وليس ضمن الأجر الواحد (أجر الاجتهاد فقط)، فضلا عن اعتبار رأينا ليس مجرد (الراجح)، بل (الحق) وأن ما سواه هو (الباطل)، وأنه هو (الإجماع) وما سواه فهو مخالف له يوجب النكير وربما التكفير، ولا حل لتعزيز الأخوة الدينية واللحمة الوطنية إلا بفقه الخلاف مع القريب والتعايش مع البعيد وفقاً لهدي الكتاب والسنة بلا مزايدة على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وخلفائه الراشدين وصحابته الميامين.

وكذلك يجب أن نعيد احترام العقل لا أن نشوهه ونصم أصحابه المؤمنين بالضلال، فالعقل الإسلامي الرشيد لا يقبل التقليد ويدعو إلى التجديد، ولا يرضى بالغلو ويسعى إلى الوسطية، ولا يسكت عن الحزبية التي جردت العقل من استقلاله ووطنيته وقوميته ودينه المعتدل المتسامح.

أعود لأذكّر بأن الشيخ ابن تيمية ألف كتابا شهيرا فند فيه التعارض بين العقل والنقل أسماه (درء تعارض العقل والنقل)، وما نراه اليوم من واقع الفجوة بين العقل والنقل هي بسبب من دمروا العقل الذي أكرمنا الله به لصالح ما يزعمونه من فهم قاصر للنقل، وعليه فيجب علينا الرجوع لعقولنا وتنميتها والعمل بموجبها لصالح ديننا ودنيانا، والحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق الناس بها، ولكن الواقع أننا نقف ضد العقل والحكمة بزعم الدين والغيرة، وإذا أردنا التطور الفكري والتنمية الحياتية فلنعد مراجعة عقولنا التي عطلت عقولنا.