يعاني المجتمع الإسرائيلي عدة تناقضات تحول دون تجانسه. لم تنشأ هذه التناقضات بسبب كونه مركّبا من مهاجرين لهم خلفياتهم الثقافية المختلفة فحسب، فمثل هذا رغم صعوبته يمكن التغلّب عليه من خلال رؤية مدنية واضحة للدولة كما هو حاصل في عدة أنظمة سياسية في العالم. لقد نشأت هذه التناقضات من إشكال تأسيسي في نظرية الدولة الصهيونية نفسها. طالب الصهاينة الدول الكبرى ذات يوم بإيجاد (دولة لليهود)، وهو ما جرى إعلانه في عام 1948. ولكن يكمن الإشكال في وجود فارق جوهري بين عبارة (دولة لليهود) وعبارة (دولة يهودية)!
تسمح (دولة اليهود) بإنشاء كيان علماني وديموقراطي كما هو مفترض، مما يؤدي إلى تجسير علاقات عضوية مع العالم الغربي بوصفه ينتمي إليه أيديولوجيا بواقع الحال، في حين أن (الدولة اليهودية) ستعمل على خلق كيان ثيوقراطي (تحت سلطة دينية)، وهذا ما قد يؤدي إلى إحراج النظم الغربية أمام شعوبها عند التعامل معه، بل قد تؤدي إلى بناء جدار نفسي يحول دون أخذ الغرب لها بشكل جدي وإبقائها معزولة أمام خطر الأعداء العرب المحيطين بها.
ما سبق هو شق من المفارقة، أما الشق الآخر فهو أن الرهان على الطرف المتدين من المجتمع الإسرائيلي هو الرهان الأكثر ديمومة، فمفهوم (أرض الميعاد) مفهوم ديني، والدوافع الدينية لا تزال هي الأقوى في خلق الرباط بين الأرض والفرد الذي يعيش عليها، ومؤشرات صمود المتدينين (الحريديم) أمام المغريات البديلة للهجرة أعلى من مؤشرات صمود غيرهم.
نشأ عما سبق اضطراب بين ركون الدولة إلى العلمانية وجنوحها إلى الحريديمية طوال السنوات الماضية. أحدث هذا الاضطراب نوعا من الاستقطاب بين الصهاينة العلمانيين من جهة، واليهود المتدينين من جهة أخرى، وهو استقطاب في تزايد مستمر، وتظهر بوادره عند كل تشريع يشعر به أحد الطرفين بغبنٍ له ومحاباة للطرف الآخر. لا يشبه هذا الاستقطاب حالات التصادم بين ما هو ديني وما هو علماني في مجتمعاتنا العربية كما قد يتبادر لمن ينظر إلى المشكلة بسطحية. الاستقطاب أكثر عمقا في الحقيقة، فبغير العنوان الديني للدولة لا يرى اليهودي المتدين أي أفضلية لبقائه في أرض فلسطين على تواجده في أي مجتمع آخر من العالم، فالأمر سيان طالما عليه انتظار قدوم المشيا (المخلّص) وتأسيسه لدولة السماء في آخر الأمر. كما أن افتقاد الدولة التوصيف العلماني سيشعر العلمانيين الذين يشكلون أغلبية المجتمع حتى الآن، بأن قضية البقاء لا تستحق العناء، فانسجامهم مع مجتمعات أخرى تكفل لهم مزيدا من الحريات السياسية والاجتماعية تفوق احتمالية انسجامهم مع مجتمع (الدولة اليهودية)، خصوصا أن كلمة (علمانيين) تشمل في هذا السياق أطيافا لا تعتقد إطلاقا باليهودية كدين بقدر ما تنتمي إليه كهوية افتراضية فقط.
إذن فكلا الطرفين يلوح بورقة المغادرة بسهولة عجيبة لا يستطيع إدراكها الوعي العربي المقابل بسبب تعوده على سماع أيقونة (اليهود أبناء التوجه الواحد)، تلك الأيقونة التي روّج لها ذوو الأيديولوجيات العروبية والإسلاموية دون إدراك لمدى الخدمة التي يؤدونها لذلك الكيان الهشّ الذي يزعمون معاداته!
يزعم بعض العرب أن اليهودية عرق وليست دينا، ويزعم البعض الآخر أن اليهودية دين في المقام الأول. هذا لا يدل بالضرورة على قصور بمعرفة العرب لليهودية كما يعبر عن أزمة في تعريف (اليهودي واليهودية) عند اليهود أنفسهم في حقيقة الأمر. فلنجرب التوصيف الذي شاع بشكل نسبي حتى الآن: (اليهودي هو شخص أمّه يهودية، ويمارس الشعائر اليهودية)، هذا يعني استبعاد من لا يمارس الشعائر وإن تحقق فيه الانتماء العرقي لليهودية، كما يعني استبعاد الممارس للشعائر وإن كان الشرط العرقي متحققا فيه!
لكنّ واقع الضغط السياسي والديموجرافي (السكاني) حال دون التزام الصهاينة بمثل هذه الصرامة، إذ إنهم يتخلون يوما بعد الآخر عن شروطهم في النقاء العرقي، فاستقبلوا الكثير من المهاجرين الروس في التسعينات مثلا تحت شبهة وجود ارتباط عرقي بعيد بينهم وبين مجتمعات يهودية سابقة، بل من أعجب الأمثلة سعيهم مؤخرا إلى استقدام وتوطين قبيلة (الهمنشي) التي لا يدل على يهوديتها سوى مزاعم إخبارية عن وجود يهود عاشوا في أزمان سابقة في الأرض التي يستوطنها الهمنشي في شرق الهند! قد يخدم مثل هذا التوسع القضية الديموجرافية مؤقتا، ولكنها ستضر إستراتيجيا بقضية الإيمان بشيء اسمه إسرائيل لدى أغلبية من يعنيهم ذلك.
إذن، فالتناقض جوهري في نظرية الدولة الصهيونية، وليس استمرار وجودها حتى اليوم سوى نتيجة لسياسات التأجيل والهروب إلى الأمام. يكفي أن نعرف أن إسرائيل فشلت في كتابة دستور لها حتى الآن بسبب التناقضات التي لم تحسم بعد، والتي ستنفجر لا محالة في قابل الأيام مع أول ضغط اقتصادي أو تهديد أمني حقيقي يؤدي إلى زيادة في معدل هروب رؤوس الأموال ولحاق الطاقة البشرية به بعد ذلك دون تأخير.
هذا بعض ما يدعو الصهاينة إلى المسارعة في مشروعات تطبيع مشروطة مع الطرف العربي من خلال التغرير ببعض المغفلين أو الخونة من الطرف الآخر.