حين احتدم واشتد النقاش الفكري اللذيذ جدا، وفي جلسة شبه عائلية مغلقة، قام أخي الأصغر بتفجير مصطلحه عن "السعودي والأسئلة المخبأة". هو يناور بهذا المصطلح في المسافة التالية: نحن في جلساتنا الحوارية المغلقة، كما في الصوالين الخاصة والمجالس "المأمونة" على أسرارها، نناقش كل شيء، ونفتح كل قضية مهما تجاوزت سقف الخط الأحمر إلى ما فوق السحاب الداكن. نحن جريئون جدا باللسان والمشافهة، ولكننا جبناء مع الورقة والقلم. يواصل: المجتمعات الصحية لا تفتح أسئلتها الجوهرية خلف الأبواب المغلقة، بل هي من ينشرها للحوار العلني المفتوح في الإعلام والمنابر الثقافية وأقنية الرأي العام المختلفة.

نصف ما قاله شقيقي آنفاً صحيح ونصفه الآخر يحتمل النقاش والمداولة. أولا، فإن العرف السائد في المخيال الاجتماعي يقول إننا محاسبون على ما نكتب لا على ما نقول، ولو أن رصيد المشافهة والكلام السادر يرفع إلى الجهة المختصة للمحاسبة في وزارة الثقافة والإعلام لاحتجنا إلى خمس وزارات بطواقم مساءلة طوال ساعات اليوم المكتمل.

ثانياً، سأعترف لها بأن الفوارق الهائلة ما بين الآراء المعلنة والأسئلة المخبأة وللفرد الواحد تنبئ عن كوارث، لا في الشجاعة الأدبية فحسب، بل في تضليل الرأي العام عن مواقف الأشخاص والأفراد تجاه قضية معينة. أعرف على سبيل المثال بعض قادة الرأي العام من العيار الثقيل الذين يظهرون على الشاشات ضد قيادة المرأة للسيارة، ولكنهم لا يعارضون الفكرة في المجلس المأمون المغلق، وأكثر من هذا يختارون المرأة بالتحديد كسائق عائلي بعد ختم الجواز سياحة في فجاج الله الواسعة. أعرف جيدا أيضا بعض أباطرة التحذير من خطورة الابتعاث ثم عشنا لنشاهدهم سياحاً إلى معاقل أولادهم وبناتهم في مدن الجامعات الأميركية. أعرف أشخاصا يقودون جماعات النصح إلى مكتب معالي الوزير للتحذير من تغيير سطر واحد في المناهج الدراسية، لكنهم يذهبون بأولادهم إلى موضة المدارس العالمية. أعرف بعضا من سدنة تقابلية الخطابين المذهبيين بمواقفهم الحادة المعلنة التي تنهيها ضحكات المساء حين يجتمعون على هوامش مؤتمراتنا الثقافية وحواراتنا الوطنية. وحتى لا يتهمني أحدكم بالانحياز، أعرف أيضا كثيرا جدا من كتائب التيار الليبرالي بمواقف متناقضة، ومخجلة بين ما يقول وبين ما يكتب.

والخلاصة أن المشهد السعودي الثقافي كتلة هائلة من "الأسئلة المخبأة" لأن المثقف في جبنه لا يشبه إلا "رأس المال" الجبان الذي يخشى ردة الفعل وانحسار الأتباع وانكماش الانتشار الشعبي. أكثر الأنساق الثقافية مرضاً ونفاقاً هي تلك التي تخشى سطوة الرقيب الاجتماعي، لأنها تحول العوام إلى سلطة، وتحيل المثقف إلى مجرد تابع لا قائد رأي. مرض "الأسئلة المخبأة" هو من أجبرنا على أن نقول في السر ما لا نكتبه في العلن.