حتى في مماته، اختار أحمد زويل أن يبعث لجذوره وعالمه الأول القديم رسالة خاصة. كتب أحمد زويل في وصيته أن يدفن في مصر، وفي هذا، وبزعمي، رسالة معلنة وأخرى خفية مستترة. في رسالة العلن عودة إلى الانتماء وتراب تكوين الجسد الطفولي، بينما في رسالة الخفاء تلك العبرة وهو يعود إلينا جثة هامدة. نحن بالفعل ثقافة تقديس الموت على حساب الحياة رغم أننا نقرأ في سبب الوجود قوله تعالى، عز وجل: (... إني جاعل في الأرض خليفة...). رغم عشرات الآيات والأحاديث الشريفة التي تدعو للبناء والاستخلاف وحب الحياة. كتب أحمد زويل كتابه الشهير "عصر العلم"، وهو الكتاب الوحيد بخط يده الذي لم تكن له علاقة بمعادلات الكيمياء وقوانين الفيزياء، وطبعه بلسان أهله، ولكننا أمة لا تقرأ.
تقول نشرة الأخبار إن جثمان أحمد زويل سيصل ظهر غد الأحد إلى القاهرة، وللمفارقة ستجرى له مراسم تشييع عسكرية من الطراز الأول. الصورة نفسها لا تعكس سوى واقعنا الأسود، لأن أحمد زويل عاش مدنيا خالصا وغارقا حتى نهاية الدماغ الضخم في معامل الأبحاث الحضارية المدنية. هو أول من استطاع تقسيم الثانية الواحدة إلى مليون جزء من الثانية (فيمتو سكند)، كي يتمكن علماء الحياة من رصد بدايات انقسام الخلايا الشاذة في الإنسان. هذا عندما يعمل في معامل الغرب حيث تبدو الثانية الواحدة زمنا طويلا بحاجة إلى التجزئة والقسمة. أما نحن هنا، فلكم من التأمل مجرد آخر أربعين سنة من تاريخنا الأسود المعاصر حين تنقسم الخلية الإرهابية الواحدة إلى عدة ألوية وفصائل. أحمد زويل أول من رصد بداية انقسام الخلية البيولوجية، بينما نحن في أهله وعالمه الأصلي لا نكتشف انقسام خلايا الإرهاب إلا بعد انفجار قنبلة أو حزام ناسف. وبدلا من أن يدفن أحمد زويل في الحديقة الواسعة أمام مبنى كلية العلوم بجامعة الإسكندرية حيث البداية، وبدلا من أن تتم مراسم وداعه بين الأساتذة والطلاب كي يبقى إلهاما وقدوة، ها نحن لم نبتكر لوداعه إلا ما نعرف: جنازة عسكرية وعلى مزامير العسكر لتشييع عقل مدني خالص.
قرأت خبر وفاة أحمد زويل خبرا عاجلا على قناة العربية مساء الثلاثاء الماضي، ثم ابتدأت بحساب قتلى ذات اليوم في حروب العرب السوداء من ليبيا إلى سورية ومن العراق إلى اليمن. ومن حسن الحظ أنه كان يوما هادئا، إذ لم تزهق فيه سوى 83 ضحية، بحسب ما جاء به حسابي البسيط من شريط النشرة على ذات القناة. ويا ترى كم سيكون عداد القتلى غدا حين يعود أحمد زويل جثة هامدة، بل كم رأسا سيسقط في معركة بلا راية أثناء الوقت القصير لجنازته العسكرية المهيبة. مثلما بدأت: كرس أحمد زويل حياته لبحث قسمة الثانية والخلية، بينما نحن أهله نفجر جمجمة البريء بطلقة واحدة بعد سبعين سنة من العمر وفي أقل من ثانية.
والخلاصة أن أحمد زويل كتب كتابه "عصر العلم" إلى أهله في عصر الجهل الذي يعود إليهم في عبرة الجثة.