جاء الزلزال السياسي بالثورة في إيران عام 1979 الذي استبدل فيه الإيرانيون القهر الكسروي بقهر كاهنوتي مقيت بأسباب عدة، منها أن الشاه أشغل نفسه وغيره، ولزمن طويل، بأنه الضامن الوحيد للمصالح الأميركية الأوروبية في إيران، وأنه السد المنيع عن وصول المتشددين للسلطة، إضافة إلى الثقة العمياء في نفسه حين صرح قبل عام من الثورة بأنه لا أحد يستطيع إزاحته لأن غالبية الشعب معه و700 ألف جندي يحمونه، واستجلب متأخرا تعاطف البعض بإصلاحات شكلية وعناية بحقوق الإنسان أراد فعلا تحقيقها وتحديث بلاده، ولكن متأخرا وفي سكرات موت نظامه، حيث لم تعد هناك قيمة ولا أثر للتحديث، وحاول جاهدا أن يستمع لصوت الحقيقة من رجالات أسمعوه إياها وتباطأ في تحقيقها، وكان منهم المفكر وعالم الاجتماع إحسان نراجي، الذي استشاره الشاه في سنين النهايات، فكتب عن تلك المرحلة وعما بعدها في كتابه الرصين (من بلاط الشاه إلى سجون الثورة)، والذي عاد للضوء بعد الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب، لأنه انطلق من رصد معاناة وطنه بدرجة عالية من الموضوعية بعيدا عن العاطفة الفكرية أو السياسية التي يعتبر استعمالها هنا نوعا من السذاجة.
حيث يروي أن الإمبراطورة فرح زوجة الشاه استشعرت كامل الخطر وحاولت استباق النهايات بحلول كثيرة لم تجد لها قلبا واعيا، وأن المراحل الأولى للثورة كانت مطالبها تسمح ببقاء الشاه ولو بملكية دستورية، لكن الإبطاء طورها، فقد طالب المتظاهرون ابتداء بتغيير اسم مستشفى في طهران كان يحمل اسم والدة الشاه إلى اسم المفكر علي شريعتي الذي يمكن وصفه بأنه فولتير الثورة الإيرانية، ثم فوّت فرصة تكريم مصدق بعد موته ورأى الشاه أنه أقوى من التنازلات، وتعامل مع نصائح المؤلف له بدرجة من المراوغة عندما صارحه بإطلاع الشعب على أكثر من 200 شركة لعائلته تستنزف مال البلاد، فرد: إنه سيحولها إلى جمعيات خيرية. ثم خطب الشاه عام 1978 وقال ما نصه: (لقد فهمت ثورتكم) في وقت تنامت الثورة كالريح العاصف وبأمواج بشرية وإضرابات منعت المستشار نراجي من قدرته على الوصول إلى قصر الشاه إلا من خلال سيارة الأجرة، وصارح الشاه بذلك فحسب أنه يستجدي سائقا أو ثمن سيارة!
إن كل مستقرئ للتاريخ يتساءل عن شبه الرضا الغربي الخاضع لإيقاع الثورة الإيرانية والدعم الفرنسي تحديدا، ورعاية بقاء الخميني في فرنسا ومقابلة الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان له، وما كتبته الليموند 1978 من أن الخميني سيقدر ذلك وسيحتفظ بالجميل؟ كل ذلك ينبغي ألا يفهم إلا في سياق الخضوع للمصلحة وليس المبادئ، لأن الاتحاد السوفيتي كان في أوج قوته، ومواجهة الأيديولوجيا الشيوعية بأيديولوجيا الخميني أمر اعتيادي في أخلاقيات السياسة، والغرب وقتها يرى أن لحية خمينية أهون من لحية إستالينية مع اقتراب الشيوعية أكثر إلى منطقة الشرق الأوسط، حيث كانت تحتل أجزاء من إيران، وفي مصنع واحد قرب طهران أكثر من 10 آلاف عامل من الاتحاد السوفيتي ناهيك عن غيرهم من تجار ودبلوماسيين وجواسيس، وخطر الاقتراب إلى منابع النفط وارد، بل أكثر من ذلك، فلقد جيّش الغرب الكثير من العواصم الإسلامية إلى تبني نوع من الصحوة الدينية الشكلانية التي تصنع المناعة من الشيوعية لدى الشعوب المستضعفة، ولا تقدح وعيا سياسيا وفكريا.
فعلى سبيل المثال ترى أن جمال عبدالناصر بفكره الاشتراكي والقومي هو من قام بإنشاء إذاعة القرآن الكريم في بلاده مما يسبب تشتتا وتناقضا لدى القارئ للمرحلة إن لم يستجمع بقية أسبابها، وحتى إن فلتت ما تسمى بالصحوة في بعض البلدان من أهدافها الأولى إلا أنه من السطحية اعتبارها عملا بريئا من أصابع الحكومات، فالشاه كان يحضر إلى كربلاء ويخضع في يوم عاشوراء إلا أن الموج أعلى من المجاديف الصغيرة، ومع أنه كان هناك برلمان شبه كرتوني ومحاسبة للوزراء الذين يقعون في فضائح إلا أن الإحباط الاجتماعي كان في أوجه، فقمع المظاهرات، وقتل السافاك عشرات البشر، وملأ السجون بمعارضيه، ولفق لهم محاكمات ينفذها قضاة يشبهون جهازه الأمني سيئ السمعة التي لم يعد يتحكم في دمويتها مع مطالبته بعدم قتل المتظاهرين عندما تضاعفت الأعداد، ولكن السافاكيين كانوا يدافعون عن بقائهم في مثل مجتمعات العالم الثالث التي هي فريسة دائمة للتسلط والانحرافات الأيديولوجية، ومع أن الشاه كان يتلقى خلاصة تقارير عن الوضع الداخلي تصل صفحاتها إلى 250 ورقة إلا أن بكردان رئيس السافاك قال إن الشاه يريد منفذين لا استشاريين، ويمكن أن نلخص الكثير من أسباب الثورة في أي بلد بأنها تقع عندما لا يكون هناك أحد يثق في الغد، وأخذ الجيش موقف الحياد، فوجد المتسلط نفسه يبحث عن ملجأ فلحق قدره وغادر إلى مصر بدعوة من السادات، ثم بقي خائفا يترقب في البلدان الغربية التي تردد عليها حتى مات بعد عام من الثورة التي بدأت التيارات تتنازع عليها، وكانت أول محاولة انقلاب في عام 1980، ورشح المتشددون شخصيات متنورة للسلطة وتحت أنظارهم ممن حاربهم السافاك، فأصبح الحسن بني صدر رئيسا للجمهورية ونائبه حسن حبيبي، ولكن لمدة وجيزة ثم أزاحهم اليمين بعد تمكنه أكثر، فهربا وكانا تلميذين للمؤلف، فوجد نفسه في قاع سجون الثورة، وتكرر ذلك مرات عدة ولسنوات، ومما منح رقبته البقاء أن المتظاهرين المدفوعين من السلطة الجديدة عندما احتلوا السفارة الأميركية في طهران وجدوا مستندات منها وثيقة كتبها سفير سابق أصبح وزيرا في أميركا يصف فيه الثلاثين شخصية السياسية والفكرية الأهم في إيران، ومنهم المؤلف، فقال إنه شخصية جديرة بالاهتمام ولكن لا يظهر منه ولاء لأميركا. في وقت كان أكبر النياشين هو عداء الشيطان الأكبر الذي تم عناقه مؤخرا!
عمل إحسان نراجي بعد مدة طويلة من تحسين ظروف السجن في إفين على عدم انقطاع نفسه وبعض السجناء معه عن المعرفة، فنظم دروسا لكل مختص من السجناء لتثقيف الآخرين حيث زخرت السجون بالمتميزين، وقرأ في السجن موسوعة قصة الحضارة، ووصلت الدروس إلى الجيولوجيا وعلم الأرض، في وقت كانت الفئة المتدينة المتسلطة الجديدة قد حولت المدارس إلى سجون، ووصلت معدلات الإعدامات إلى 80 حالة يوميا، ويقول أحد الشباب من أصدقاء سجن المؤلف إنه استغرب أنهم حققوا معه هذه المرة بدون عصابة لعينيه، وأنه إن صح حدسه فإنهم لم يعودوا يخشوا أن يعرفهم، ولذلك استدعوه صبيحة اليوم التالي إلى المشنقة وقد ناداه السجان بالفعل باكرا!!
وتحت سلطة القمع الثيوقراطي تم طرد وقهر وتهجير الكثير من العقول الإيرانية الواعية والمتميزة والتجار، ففي ولاية كالفورنيا الأميركية لوحدها هاجر بعد استيلاء المتشددين على الحكم أكثر من 300 ألف إيراني!
وعندما نستحضر روح تاريخ الثورات في إيران فإنها تقول إن الدماء الحرة عصية على النسيان ولو بعد 40 سنة، فالتاريخ ينادي في أذن اليوم والغد، ورُبّ مستمع والقلب
في صمم.