لا شك أن المذبحة التي تعرضت لها كنيسة سيدة النجاة في بغداد في 31 أكتوبر الماضي قد هزت كل ذي ضمير حي، وهي تحدِّ صارخ لسلطة الدولة وهيبة الولايات المتحدة، القوة المؤثرة في العراق، فضلاً عن كونهاً هجوما على جوهر الإسلام الذي جعل من حماية الأقليات ميثاقاً لا يجوز التحلل منه.

وقد توقعتُ، كما توقع الكثيرون، أن تدفع هذه المذبحة البشعة إلى أن تهرع قوات الأمن الأمريكية والعراقية إلى حماية البقية الباقية من المسيحيين، ولكن أخبار الهجوم على الطائفة المسيحية استمرت.

ولا يمكن أن تشكل الأقلية المسيحية تهديداً لأي كان في العراق، فتعدادها قد لا يصل إلى المليون، وليست طرفاً في أي من النزاعات القائمة على السلطة، ولكنها فريسة سهلة للمغامرين والطامعين. وتعود الأقلية المسيحية في العراق إلى بدايات الديانة المسيحية، وقد كفل لها المسلمون منذ الفتح الإسلامي حق الحياة بأمان وسلام وكرامة، وحرية ممارسة شعائرها والمحافظة على بيوت عبادتها. وبرز من مسيحيي العراق على مر العصور الكثير من الكتاب والعلماء والأطباء والمفكرين. وأذكر في أيام الدراسة في الرياض أنه كان لدينا معلمون عراقيون فيهم المسلم والمسيحي، لم نفرق بينهم إلا في القدرات العلمية والتعليمية.

ويتركز المسيحيون في العراق في منطقتين، في الشمال، حيث كانوا إلى وقت قريب يشكلون نسبة عالية من سكان منطقة كردستان الحالية، وفي بغداد.

ومن المفارقات التاريخية أن التدخل الأمريكي في العراق، بدلاً من أن يؤدي إلى حماية الأقليات، قد أسهم في تشرذم الأقلية المسيحية ونزع الحماية الطبيعية التي توافرت لها خلال ألف وأربعمئة عام من الحكم الإسلامي في العراق.

فبعد حرب الخليج الأولى وانفصال كردستان العراق بحكمها الذاتي تحت الحماية الأمريكية، بدأت عملية منظمة لتهجير المسيحيين منها، بهدف زيادة نسبة الأكراد في المنطقة، وهو أمر ما زال مستمراً حتى اليوم، ونراه قد امتد إلى الصراع على الموصل والمناطق المحيطة بها، حين قال حاكم الموصل في شهر مايو الماضي إن مسيحيي الموصل قد أصبحوا ضحية مؤامرة سياسية تهدف إلى إخراجهم منها، واتهم صراحة جنوداً أكراداً في الجيش العراقي بالضلوع في بعض العمليات الدموية ضد المسيحيين. ولعلنا نذكر الهجوم البشع في تلك المنطقة على باصات للطلاب المسيحييين في شهر مايو من هذا العام، أدى إلى إصابة نحو (140) طالباً، وذلك فضلاً عن عمليات الخطف والقتل على الهوية والهجوم على بيوت العبادة.

أما في بغداد، فمنذ الغزو الأمريكي في 2003، واجهت الأقلية المسيحية أعمال عنف منذ بداية الحكم الأمريكي، واستمرت تحت سمع وبصر القوات الأمريكية، ووصلت قمة العنف في مهاجمة كنيسة سيدة النجاة في الكرادة (بغداد) في 31 أكتوبر، حين هاجمت مجموعة مسلحة، يُعتقد أنها تنتمي إلى القاعدة، وعاثت فيها فساداً وقتلاً وتخريباً، قبل أن تهاجمها قوات الأمن، ولم توفق هذه القوات في حقن الدماء، إذ استمر القتل بين صفوف المصلين، إلى أن وصل إلى نحو (37) من الرهائن، بالإضافة إلى (7) من قوات الأمن، و(8) من المهاجمين، بالإضافة إلى (67) من الجرحى. ومن الضحايا شيوخ ونساء وأطفال ورجال دين وغيرهم ممن كانوا داخل الكنيسة وقت الهجوم عليها.

وعلى الرغم من الاستنكار الشديد من قبل جميع الأطراف للهجوم على كنيسة سيدة النجاة، استمرت أعمال العنف ضد المسيحيين في بغداد خلال هذا الشهر، ففي يوم الأربعاء الماضي (10 نوفمبر) على سبيل المثال، تفجرت (11) عبوة ناسفة استهدفت منازل المسيحيين وتواجدهم في ثلاثة أحياء مسيحية في بغداد، حسب رواية قوات الأمن. وهو ثالث هجوم منظم ضدهم منذ الهجوم على الكنيسة في 31 أكتوبر.

والقانون الدولي واضح في مسؤولية الولايات المتحدة والحكومة العراقية عن حماية هذه الأقلية التي عاشت بسلام بين إخوانهم المسلمين أربعة عشر قرناً، فالعراق ما زال منطقة نزاع دولي، تتواجد فيه القوات الأمريكية بكثافة، على الرغم من تسليمها كثيراً من مسؤوليات الأمن للقوات العراقية. ولذلك فإن اتفاقيات جنيف لعام 1949 (خاصة الاتفاقية الرابعة الخاصة بحماية المدنيين)، تضع عليها عبئاً رئيسياً لتوفير الحماية لهم.

والهجوم على هذه المجموعة الآمنة ليس تحدياً للسلطة وهيبة القانون، فحسب، بل هو هجوم على جوهر الإسلام نفسه، فبقاء المسيحيين في أمان طيلة (14) قرناً لم يكن مصادفة، بل نتيجة عهد وميثاق قطعه المسلمون الأوائل على أنفسهم لحماية الأقليات. ونقض الميثاق من أغلظ ما يمكن أن تُتهم به أمة في أخلاقها. وقد نسي المعتدون أن المسلمين الأوائل هم أول من ابتدع حماية الأقليات وجعل منها مبدءاً وسنة. وتجد عمق الإيمان بهذا المبدأ، حماية الأقلية المسيحية، بوضوح خلال الحروب الصليبية، حين فرق المسلمون بين الصليبيين الغزاة وبين إخوتهم في الوطن من المسيحيين، ومنعوا إساءة معاملتهم أو تهجيرهم. وهو عكس ما كان يفعله الصليبيون حين أساؤوا معاملة الأقليات، حتى من المسيحيين، حينما دخلوا المدن الإسلامية. ونجد هذه القوى المارقة اليوم، مع الأسف، تتبع سنة الصليبيين!