عدت إلى مقهى الوحدة، كي أكتب مقالي، وصلت إلى هذه المدينة منذ الصباح الباكر، جنيف هادئة جداً تشبهني إلى حد بعيد، وقبل أن أتطرق إلى صلب الموضوع في المقال، وقبل أن أكتب الكثير... الكثير من الكلمات، كنت أفكر منذ أن كنت أحلق في السماء وحتى قبل أن أصل إلى الفندق، الذي يقع في قلب المدينة الهانئة والقريب من البحيرة الساحرة، أفكر طويلاً بالصورة التي لم تفارقني من ذاك الفيلم الفرنسي الذي شاهدته قبل حبل طويل من السنين، كنت في مدينة "رين" الفرنسية وأجبرت مكرهة على مشاهدة فيلم فرنسي، لكنه كان فيلماً أقرب لأن يكون صامتا، زوجان متقاعدان عن العمل يخططان للذهاب إلى رحلة لمدينة صغيرة تقع بجانب البحر، بدت الزوجة الشقراء سعيدة بإعداد هذه الرحلة، وأوحت إلى المشاهدين بأنها لربما تعمدت هذه الرحلة لتغيير طباع زوجها الصامت، والذي بدا ميالا للعزلة بعد تقاعده، في ذلك اليوم فتح الزوج الباب بعد أن ارتدى لباس البحر، وخرج ولم يعد...
خرجت من السينما وأنا ألعق دموعي، ضحكات مريم القطرية على دموعي، تخرق أذني محاولة أن تخرجني من الحزن الذي تذكرته الآن، ربما انتابتني ذات المشاعر حينما قامت إحدى الزميلات بالتعليق السيئ على مقالي الذي نشر الأسبوع الماضي، وكنت قد تطرقت فيه إلى قضية الفتاة المراهقة التي هربت إلى جورجيا، وبالتأكيد كنت حزينة لهروب شهد، وحزينة أيضا على أسرة المراهقة التي وضعت نفسها في ورطة كبيرة حينما تركت أسرتها، التعليقات انهمرت على حسابي في "تويتر"، مراهقون ومراهقات سذج، يطبلون ويصفقون لما فعلت شهد، ويمطرونني بأسوأ التعليقات وأقبحها، لأنني كما فهمت، شعروا بأنني أضع ميزان الأسرة والقبيلة، قبل كرامة أي هاربة، إنهم من الداخل يشعرون بالهزيمة والخيانة، لذا، فكل ما استطاعوا التعليق عليه، هو لون أحمر الشفاه في صورتي، هجوم مرتب عبر سلوك غير واع، بينما كل واحد وواحدة منهم، ينام في أحضان أسرته، وكل ما يقومون به هو وضع الجوال في الشاحن، كي يغردوا بأكبر قدر ممكن من التغريدات المسيئة، غير عابئين على الإطلاق بما تحمله الأسرة من مشاعر مؤسفة، خوفا وقلقا على صغيرتهم التائهة.
غلبني الشعور القديم باختفاء الزوج في الفيلم، من دون أن تعرف زوجته ما الذي دفعه لذلك؟ وأين اختفى؟ ولماذا هرب منها؟ الشعور بدا رماديا حانقا بالنسبة لي، نعم، لقد صافحت الأسى في ذلك الفجر وأنا أشعر بالخجل من التعليقات التي تدين الأسرة، وتصفق لهروب الفتيات من أسرهن، لقد تساءلت هل حقا هذا هو مجمل تفكير المراهقات في وطني؟ في معظم الأفلام الهوليودية، حينما تكون الفتاة أو الفتى شقيا ومنحرفا كان يدين بذلك والده أو والدته التي تركته فجأة، من دون أن يعرف أحدهم أين ذهب الأب أو الأم، لا يغفر الأطفال في أميركا لأي من والديهم حينما يهربون من مسؤوليتهم، لا يغفرون لهم حتى وإن كبروا، الهروب مرارة، تخيل أن تستيقظ من نومك لتجدا أحد من أفراد أسرتك وقد غادر حياتك، حينها تتمنى لو كان ميتا أفضل من أن يكون على قيد الحياة ولا تعرف لماذا هجرك؟ هذه هي الطبيعة البشرية، الإحساس بالمرارة المثير للذات، حينما يتركك أي شخص، أيا من كان، على ظهر هذه الأرض.
أعتب على نفسي في مقالي السابق، أنني لم أضع حلولا، لم أكن أعلم جيدا كيف يمكن لي أن أسهم في مساعدة الفتيات في التغلب على فكرة الهروب من البيت، كنت متأثرة من الحدث وكل ما كنت أبتغيه هو محاولة إيضاح أن الهروب لن يكون حلا لأي مشكلة، بل هو الطريق الخاطئ والسيئ من وجهة نظر معظم أفراد المجتمع السعودي، ولست الوحيدة التي تفكر بذات الشيء، يستحيل أنني أفكر في تشجيع الفتيات على الهروب، ولكني أعترف بأني لم أدون الطرق السليمة لحل المشكلة.
وقد قرأت قبل يومين تحقيقا في إحدى الصحف عن كيفية علاج مثل هذه المشكلة، وأثارني رأي المحامي الدكتور ماجد الفيصل، إذ قال إنه من المهم سن قوانين نظامية تهدف إلى تشجيع الفتيات الهاربات على العودة، مع عدم معاقبتهن في سياق ما يعرف بموانع العقاب في النظام الجنائي، وأضاف أنه لا بد أن نوضح أن قضايا هروب الفتيات تحتاج إلى وقفات تنظيمية لمختلف مراحل هذا الموضوع، سواء بالتوعية قبل وقوع جريمة الهروب، أو بوضوح قواعد التجريم والعقاب بعد وقوعها، أما قبل وقوعها فلا بد من وجود قواعد نظامية تهدف إلى التأكيد على ديمومة التوعية، وتحديد الجهة أو الجهات صاحبة الاختصاص بهذه التوعية، أما بعد وقوع الهروب فلا بد من التأمل في مدى الحاجة لوضوع قواعد التجريم والعقاب التي تخضع لها، بسن قانون عقوبات يحدد تجريم هذه الأفعال وعقوباتها من جهة، وتحديد عوارض المسؤولية الجنائية، ومنها ما يعرف بموانع العقاب، وهي تلك الحالات التي تحتاج لوجود نصوص نظامية، توضح حالات إمكانية عدم معاقبة الفتاة رغم هروبها، متى ما تراجعت عن الهروب من تلقاء نفسها وعادت إلى أهلها، وأن يكون هذا هروبها الأول أو نحوه وتراجعت عنه قبل قدرتها على الهروب والقبض عليها أو نحوه.
السؤال الذي لا يزال يشغلني حتى هذه اللحظة، لماذا يصفق المراهقون والمراهقات لهروب الفتيات، بينما جميعهم في أحضان أسرهم؟