"بسّام" ابن صديقتي في الثانية عشرة من عمره. في طفولته المبكرة لاحظت أمه المتخصصة في "دراسات الطفولة" أنه فقد التواصل معها واختفت الكلمات البسيطة التي كان يرددها كباقي الأطفال، وذلك بعد تعثره وسقوطه في السنة الأولى من عمره، ومشيئة الله تسبق كل شيء. أخذته كأي أم للمتخصصين وكان الرد بأن الأمر طبيعي والطفل سليم وعليها ألا تستعجله، لكنها قررت الذهاب إلى متخصصة في النطق لاكتشاف سبب التأخر. أخبرتها المتخصصة بأن طفلها يعاني من تخلف عقلي وإعاقة دائمة في النطق ولن يكون طبيعيا أبدا. قالت لها: "يمكنك أن تحاولي وتدفعي المبالغ الطائلة لكن لا تتوقعي أي تطوّر خارق وعليك التعايش مع هذه الحقيقة".
خرجت (أمل) من المركز تحمل هموم الدنيا على كتفيها! ما زلتُ لا أدري كيف يمكن لبعض من نسميهم ملائكة الرحمة من الممارسين الصحيين أن يطفئوا السراج ويتركوا من يطلب منهم المشورة بلا بصيص أمل.
في خضم هذه الظروف يشاء الله تعالى أن تسافر أمل لاستكمال دراستها في الخارج مصطحبة معها صغيرها الذي تشرق لرؤيته الدنيا. حطت بها الرحال في بريطانيا فاستخارت الله ثم قررت تسجيل صغيرها في المدرسة الحكومية بجوار مقر سكنها، فالمدارس هنا تدمج الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة البسيطة في الفصول مع زملائهم، فآخر ما يحتاجه أمثالهم هو العزل.
قضى بسّام بعض الوقت في التأقلم مع ظروفه الجديدة وبدعم المدرسة والمنزل بدأ هذا الطفل الجميل ينطق بكلمات لا تفهمها إلا والدته. تجاهلت المدرسة جوانب ضعفه وركزت على جوانب قوته، تعلمت والدته لغة الإشارة لتسهيل تواصل ابنها مع محيطه وسخرت معرفتها وتأهيلها لتطوير مهاراته.
بعد سنة استدعت المدرسة والدته لتخبرها بأن قدرة بسام على الاستيعاب والفهم أعلى بكثير من قدرته على التعبير اللغوي والتحدث، فهو باختصار موهوب كتابيا وحسابيا. ركزت والدته مع المدرسِّة على جوانب القوة لديه والتي تكمن في مهاراته اللغوية وحرصت على تدريبه على التعبير عن مشاعره واحتياجاته في حال عدم فهمها بالكتابة بدلا من لغة الإشارة. فعلى سبيل المثال عندما يطلب منها شيئا ما ولا تفهمه تطلب منه كتابة أحرف وكلمات ليصف ما يريد. ترددت كلمات الثناء من المدرسة على شخصية بسام الإيجابية والمحبوبة لدى الجميع فلديه ما لدى جميع زملائه في الصف من الثقة بالنفس وحب التجربة. لاحظت معلِّمة الصف تطوره اللغوي فهو لا يكتب وحسب، بل ينظم الشعر بلغته الثانية في سن الثانية عشرة! تعزيزا لهذه الموهبة لديه تم ترشيحه للمشاركة في مسابقة "تحدِّي الكتابة" على مستوى بريطانيا بعد استئذان والدته. شارك بسّام ضمن فئة الكتابة الإبداعية في موضوع "التعبير عن مشاعر الغضب" وفاز ونشرت قصيدته ضمن ديوان المسابقة. أراد الله أن يسعد قلب أمل بفوز صغيرها وتكريمه.
تقول لي: "عندما وصل إشعار فوزه بالبريد لم تسعني الدنيا كلها من الفرحة، وكأني حصلت بالفعل على شهادة الدكتوراه، فوز بسّام في هذا التحدي جعل هذه الغربة وليالي السهر والإرهاق تستحق بالفعل كل هذا العناء".
كانت أمل تتحدث معي بالهاتف وقالت لي: "أخبري العالم أن صغيري فاز كي لا يفقد من رزقه الله طفلا من ذوي الاحتياجات الخاصة الأمل مهما كانت التحديات، أخبري الأمهات أن ربنا لا يأخذ منا إلا ليعطينا وبأن الرضا سبيلنا الوحيد لكسر سلاسل العجز والوصول بسلام إلى الجهة المشرقة من النفق".
تمنيتُ في تلك اللحظة لو كانت لكلماتي أذرع تمتد لعناقها وتهنئتها على الصبر والإنجاز. نعم كل إنجازات أطفالنا مهمة، لكن عندما يكرمنا الله بطفل من ذوي الاحتياجات الخاصة تكون فرحة الإنجاز مضاعفة وكأننا نعصر الغيم بأيدينا.
بقي أن نقول إن بسام ليس استثناء، فعلى الأغلب يبارك الله في ذوي الاحتياجات الخاصة ويكرمهم بمواهب فذّة تحتاج فقط لمن يلاحظها ويركّز الجهد عليها بتشجيع مميزاتهم وتجاوز نقاط ضعفهم.
يمكن الحكم على تطور الأمم بالنظر لحال الفئات الخاصة فيها، لأن ذوي الاحتياجات الخاصة ليسوا بحاجة للشفقة أو الاحتفالات والكلمات الرنانة. تريد منا هذه الفئات اهتماما مؤسسيا يحتويهم ويكفل لهم تحقيق أعلى مستوى تصل إليه قدراتهم.
إن الاهتمام ببرامج تأهيل ذوي الاحتياجات وفقا لقدراتهم يمنحهم فرصة الحضور بل والتميز بالمشاركة الفاعلة في مجتمعاتهم، إننا نمنحهم القدرة على العطاء ونحولهم من فئة مستهلكة إلى فئة منتجة. ربما يكون التحدي الذي يواجه من يولد بمثل هذه الاحتياجات هو عجز مجتمعاتهم الصغيرة عن توجيه طاقاتهم ومحدودية الاهتمام بهم وتقصير الجهات المسؤولة عنهم أو تركهم لاجتهادات الأهل، وليس الأهالي سواء في قدرتهم على الرعاية.
مبارك لـ"أمل" هذا الإنجاز، وتحية من القلب لكل أم أو أب استطاع تسخير الظروف وتوجيه طاقات أبنائه من ذوي الاحتياجات الخاصة ومنحهم أجنحة تقهر التحديات، وكان الله في عون من لا يجد لذلك سبيلا.