تعمل أدمغة الأشخاص الأكثر ذكاء بطريقة مختلفة حيال عملية التواصل، فهم يفضلون العيش في جزر منعزلة وعوالم صغيرة. وبالنسبة لهم يعتبر التفاعل الاجتماعي شرّا لا بد منه وليس احتياجا جوهريا في حياتهم. الحقيقة، أنه كلما اضطر هؤلاء العباقرة إلى التواصل بشكل متزايد قلت سعادتهم.

يتحمس الأذكياء كثيرا للأشياء التي تهمهم بشكل شخصي أكثر من اهتمامهم بالتواصل والعلاقات. يقول الباحث كارول جراهام إن هؤلاء الأشخاص يقضون معظم أوقاتهم في العمل على أهداف وخطط "طويلة المدى"، فهم يجدون السعادة في الأنشطة التي تعود عليهم في النهاية بتحقيق أهدافهم. مثلاً، لا يحتاج طبيب يعمل على تطوير علاج للسرطان، أو كاتب يعمل على كتابة رواية مميزة، إلى الكثير من التواصل مع الآخرين. لأن هذا التواصل قد يشتتهم عن مهمتهم الأساسية، والذي يعني ببساطة أنه سيكون له تأثير سلبي على إحساسهم بالسعادة والانسجام الداخلي.

نحن نعيش الآن في عصر التكنولوجيا، محاطين بأعداد هائلة من الآخرين، لكن معظم الناس ما زالوا يحملون داخلهم ذلك الإنسان القديم. كأن أجسادهم تحيا في عصر، بينما تحيا عقولهم في عصر آخر. الأجساد تسكن المدن العملاقة التي كثافتها ألف نسمة لكل كيلومتر مربع، والعقول تسكن صحراء "السافانا" الإفريقية التي كانت كثافة سكانها شخصا واحدا لكل كيلومتر مربع. تنطبق هذه النظرية على معظم البشر وليس جميعهم.

يتمكن العباقرة -بخلاف متوسطي الذكاء- من التغلب على الفجوة التي بين ذاكرة الماضي وظروف الوقت الحاضر، وبشكل عام هم أكثر قدرة على التكيُّف من غيرهم. كأن الطبيعة تحاول من خلالهم إيجاد طريقة لحل المشكلات التطورية الجديدة. لهذا يتمكن العباقرة من العيش على طريقتهم الخاصة دون الارتباط كثيرا بجذورهم. إن قدراتهم العقلية المرتفعة تمنحهم قدرا من الحرية يجعلهم غير مضطرين للاعتماد على وجود الآخرين معظم الوقت، مما يعني العمل على أهدافهم بشكل مستقل. هؤلاء الأشخاص منسجمون مع أنفسهم ولا يحتاجون إلا لتواصل حميمي من فترة لأخرى.

نتائج هذا البحث الأساسية حول الكثافة السكانية والتفاعل الاجتماعي والسعادة لا تثير جدلا كبيرا، لكن كارول جراهام، الزميلة بمعهد بروكينجز وأساتذة العلوم السياسية العامة بجامعة ماريلاند الأميركية، تعتقد أن هناك عيبا واحدا محتملا في هذه الأبحاث، أنها اعتمدت في تحديد السعادة على تقارير الأفراد الذاتية عن أنفسهم، أي عن طريق الإجابة عن سؤال: ما نسبة رضاك عن حياتك ككل؟ ولم تقم وزنا للسؤال حول خبرة السعادة نفسها عن طريق أسئلة مثل: كم مرة ضحكت بالأمس أو كم عدد المرات التي غضبت فيها؟ وغيرها من الأسئلة التي تبحث في معايشة خبرة بعينها. وتضيف جراهام أن الباحث يعلم أن هذين السؤالين بإمكانهما الذهاب بالبحث إلى نتائج مختلفة جدا.