تتباين مواقفنا من نظام الحياة الغربي الذي يحترم الحرية الفردية مهما بلغت، والذي يوفر أسلوب حياة متقدم فيه الكثير من الرفاهية في الصحة والتعليم والترفيه وغيرها من نواحي الحياة المختلفة. هذه المواقف تتراوح بين الانبهار الشديد والمقت العميق. فالمنبهرون بالنظام والنظافة والعدالة، يكادون يتغاضون، أو يغضون الطرف، عن الجوانب السلبية في تلك الحضارة، كتلك التي تبيح المثلية الجنسية وغيرها. في المقابل فريق الكارهين والماقتين لا يريد أن يرى شيئاً من الأنظمة العادلة التي تحفظ الحقوق للنساء والأطفال والضعفاء وكافة أفراد المجتمع، ولا يعترف بالمنجزات العلمية والثقافية المبهرة. وتظل الأغلبية ربما في حال وسط: يرى الإيجابيات ويحاول الاستفادة منها عبر التعليم والصحة والتجارة والسياحة، ويحاول ما استطاع تجنب السلبيات التي لا تتوافق مع قيمه ودينه ومعتقداته.

كل هذه المواقف الثلاثة مقبولة في حال كان المواطن العربي أو المسلم طارئاً (مبتعث، مريض، سائح، إلخ) على تلك البلدان لتحقيق هدف معين، فيلتزم بالقوانين والنظام ما دام فيها حتى تنتهي حاجته. لكن ماذا لو اختار ألا يكون طارئاً؟ أي اختار المواطنة لنفسه وأسرته في تلك البلدان الغربية؟ هل يستطيع أن ينتقي أو يختار من قوانينها وقيمها ما يعجبه؟

نشرت صحيفة عكاظ بتاريخ الأحد (31 يوليو 2016) بعنوان: "لندن: المحكمة العليا ترفض طلب سعودي منع نشر نزاعه مع ابنته". ومما جاء في الخبر المقتضب بأن ثمة والداً سعودياً يواجه قضية مرفوعة عليه هناك من قبل ابنته (21 عاماً) بتهمة احتجازها في جدة منذ أربع سنوات، في حين عادت بقية الأسرة والأبناء إلى بيتهم وبلدهم الذي ولدوا وعاشوا فيه طوال حياتهم ويحملون جنسيته (جنسية مزدوجة سعودية – بريطانية) في جنوب مقاطعة ويلز البريطانية. ووسط هذه التهمة من العيار الثقيل "احتجاز مواطنة بريطانية قاصر بداية وراشدة حالياً ضد رغبتها" والتي يمكن أن تكون عقوبتها وخيمة، فإن الأكاديمي الستيني، ما زال بعقليته العربية يعتقد بأن المشكلة الأهم هو ألا يعلم بها أحد! وجاء الرد من القاضي الإنجليزي بالرفض، وبحسب صحيفة عكاظ: "وأضاف أن نشر الأخبار بلا قيود يمثل أساس المجتمع الديمقراطي". ولم يتسن الحصول على المزيد من المعلومات حول القضية التي تمس كذلك حياة مواطنة "سعودية" من الصحف السعودية، ولذلك فقد تم الحصول على بقية المعلومات من الصحف البريطانية، التي اهتمت -ولا شك- بإبرازها.

القضية باختصار هي أن أكاديمياً سعودياً، يعمل في المملكة أنجب تسعة أبناء في المملكة المتحدة، من زوجة لسنا متأكدين من جنسيتها، وحرص على بقائهم جميعاً هناك ليحصلوا على الجنسية البريطانية، ويتعلموا، ويتعالجوا على حساب الدولة البريطانية، ويحصلوا على الإعانات التي يحصل عليها الأطفال من الدولة. فالفتاة التي رفعت الدعوة عاشت منذ الولادة وحتى عمر الستة عشرة في مقاطعة ويلز. وحقيقة لا نعرف حجم المتابعة من قبله وقبل زوجته لأبنائهما خلال حياتهما في المجتمع الغربي، الذي باتوا ينتمون إليه قانونياً وثقافياً، ويبدو أنها كانت تعيش مرحلة المراهقة مثل أي فتاة بريطانية في سنها. غريباً أن تتأثر بأقرانها. وهنا استيقظ الأب متأخراً، وبدل أن يتدارك أخطاء الماضي، ويحاول بالحسنى والإقناع بيان ذلك الخطأ لابنته، اختار اختطافها (في العرف الغربي) والعودة بها إلى جدة.

في جدة كان يُفترض أن يحسن معاملتها ويحاول جذبها إلى الحياة في الوطن والعائلة، لكن ما ذُكر في التقرير – إن صدق ولم تكن فيه بهارات غربية- فإنها تزعم بأنها تعرضت للتعنيف وحلق شعر رأسها الطويل، ووضعها في غرفة أشبه بالسجن ومغلق عليها بالحديد. وبعد أربع سنوات لم تلجأ للسلطات المحلية، التي ربما لا تعرف حتى لغتهم، وإنما للقنصلية البريطانية في المملكة. وبحسب ما ذُكر في عكاظ فقد اعترف الأب ببعض ما نُسب إليه.

أربع سنوات لم تجعلها تتأقلم، خاصة أن الأب لم يقم بإعادة بقية الأبناء والعائلة منعاً لحصول فضيحة جديدة، وإنما هؤلاء جميعاً عادوا لحيواتهم ودراستهم في ويلز، أي أنه ما زال يستفيد من النظام البريطاني والدولة البريطانية، وهو الذي يقول على لسان محاميه، في معرض دفاعه عن موقفه في رفضه إعادة ابنته إلى بريطانيا، بأنه لا يرغب في أن تعود لنمط حياتها السيئ، ولجو الحياة المسموم هناك!

صديقنا الدكتور الجامعي وقع في معضلة الازدواجية المقيتة، هو يريد الاستفادة من النظام البريطاني الجيد تعليمياً وصحياً، لكنه في الوقت نفسه يحتقر المجتمع البريطاني، ويعتبره مسموماً، وليس سعيداً ليس فقط بأسلوب الحياة المتحرر، وإنما حتى بجو الحرية والشفافية، بدليل تقدمه بطلب لحجب المعلومات الخاصة بقضيته عن الإعلام، وهذا أمر شبه مستحيل في الصحافة الغربية. وبسبب موجات التطرف والإرهاب التي ترتدي ثوب الغلو والتشدد الديني، بات الناس يخشون على أولادهم من التطرف الجهادي، ومن الاستقطاب من قبل الجماعات الإرهابية، لكنهم نسوا أو تناسوا، بأن هناك تطرفاً في الاتجاه المعاكس.

تربية الأبناء أمانة عظيمة، ومسؤولية جسيمة، والحياة اختيارات، وما تزرعه في الصغر، ستحصده في الكبر -مع استثناءات قليلة- فحتى اختياراتك في التربية والتعليم داخل الوطن ستؤثر على دينه ولغته ونوعية أصدقائه. فعليك أن تدرس خياراتك جيداً، وتعرف بأن كل خيار له شروطه، وتترتب عليه نتائج قد لا تظهر إلا بعد عشرين سنة، فإما أن تقبل بقواعد اللعبة وكافة احتمالاتها قبل أن تبدأ، أو لا تقبلها من الأساس.