الفوضى الخلاقة التي أطلقها الأميركيون من العراق لتطال كل المنطقة العربية أصبحت الآن فوضى خنّاقة تجتاح العالم وتهدّد بتفكيك المجتمعات الأوروبية والأميركية أيضاً، لأنّ الأدوات التي تمّ استخدامها أصبحت قادرة على بلوغ المجتمعات البعيدة، إذ إن إستراتيجية الفوضى الخلاقة التي أنتجتها أميركا واعتنقتها إيران في العراق هي من السهولة بحيث يمكن لأي فرد أن يحترفها أينما كان.
يكاد لا يمضي يوم واحد من دون حدث مفجع في إحدى العواصم الغربية، حتى أصبحت العديد من دول أوروبا تعيش تحت ضغوط حالة الطوارئ غير المحبّبة لدى تلك المجتمعات. وبعد كل عملية إرهابية يزداد حضور القوى العنصرية المعادية للعرب والمسلمين في أوروبا. وقد أصبح الخطاب العنصري يلاقي آذانا صاغية لدى شرائح كبيرة من المجتمعات الغربية، مما ينذر بالأسوأ لتلك الدول التي قد تدخل في نزاع أهليّ، وخصوصاً أنّه في بعض الدول الأوروبية توجد جاليات عربية ومسلمة كبيرة.
بدأت هذه الموجة الجديدة من الإرهاب بعد الاعتداء على الحرم النبوي الشريف في المدينة المنوّرة، والذي كان بمثابة إعلان حرب إرهابية بلا حدود أو روادع. وهذه الظواهر تقول إنّ الإرهاب قد دخل مرحلة من اليأس الكامل، وذلك من خلال تعريض الجاليات العربية في أوروبا إلى ردّات فعل تجعلهم يفقدون استقرارهم في تلك الدول ويتحولون إلى جماعات يائسة، مما يساعد هذه التنظيمات الإرهابية على تجنيد المزيد من الشباب وإطالة عمر الحرب وكلفتها على الدول العربية والأوروبية المستقرة.
إنها الفوضى الخلاّقة التي انطلقت من العراق وانتشرت لتشمل كلا من سورية وليبيا واليمن، والتي تشهد نزاعات أهلية مسلّحة منذ سنوات، وتستنزف مقدرات الدول العربية العاملة على إنهاء هذه النزاعات وإعادة الاستقرار للمجتمعات العربية المأزومة. وبعد عمليات الإرهاب في أوروبا، سوف تتضاعف المسؤولية لتطال استقرار الجاليات العربية في أوروبا، مّما يزيد الخناق على كلّ الدول العربية ومجتمعاتها.
الفوضى الخلاّقة التي أطلقتها الولايات المتّحدة من العراق بدأت ملامحها تتّضح أكثر من أي وقت مضى، وعلى ما يبدو أنّها لم تستهدف المنطقة العربية فقط بل النظام العالمي بأسره. وهذا ما يحتّم علينا إعادة التفكير بالأهداف الحقيقيّة للفوضى الخلاّقة، ويستدعي عملية تفكير مشتركة مع كلّ تلك الدول المستهدفة بهذه الفوضى، وتأمين قواسم مشتركة تعيد وضع الأمور في نصابها، كي لا يبقى العالم مختبرا لأفكار هدّامة تهدّد الأمن والسلم الدوليّين.
شعرنا جميعاً بشيء من الارتياح على إثر الاجتماعات التي عقدت في أميركا لدول التحالف الدولي ضد داعش، والتي ضمّت وزراء دفاع وخارجية 30 دولة مشاركة في التحالف، وما نتج عنها من قرارات بالقضاء على داعش قضاء تاما في سورية والعراق وأي مكان حسب ما جاء في البيان الختامي لتلك الاجتماعات. وهذا تطوّر أساسي وضروري بعد أن تركت دول التحالف العربي وحدها في مواجهة هذه التطوّرات عسكريّاً وسياسياً، بالإضافة إلى التحالف الإسلامي والمكوّن من 40 دولة انطلاقاً من المملكة العربية السعودية.
لا أحد يشكّك بأنّ التحالف الدولي ضد داعش سيكون له تدخّله المباشر في القريب العاجل، وهذا بدا واضحاً بالتصديق الفرنسي على الاتفاق الذي جرى في واشنطن، والحديث عن إرسال حاملة طائرات شارل ديغول إلى المنطقة، وكذلك نشر طائرات متطورة إلى الإمارات والأردن. وسنشهد تطوّرات أخرى مماثلة، ممّا يعني أنّ الحرب الكبرى على داعش في سورية والعراق واقعة لا محالة. هذا بالإضافة إلى الحديث عن اقتراب الاتفاق الروسي الأميركي حول التنسيق العسكري في سورية واستحداث لجنة مشتركة مركزها الاْردن، والحديث عن أنّ الحرب على داعش ستبدأ من الجنوب.
يبقى التحدّي الأعظم وهو تحديّات ما بعد القضاء على داعش عسكرياً، وما سيترتّب عليها من آثار اجتماعية واقتصادية، وفي مقدّمتها تحدّي الأمن الفكري لمجتمعاتنا، وهذا يتطّلب انخراطا نخبويا ومجتمعيا في هذه المواجهة، إلى جانب الحكومات التي لا تدّخر جهداً من أجل تحقيق الأمن والاستقرار الفكري والاقتصادي والاجتماعي. لا بدّ من تضافر الجهود لمواجهة هذه الفوضى الخنّاقة التي تهدّد وجودنا واستقرارنا.