الهدوء قرين الحق، أما من كان على باطل فطبيعي أن يلجأ إلى الفبركة والرغي والتزييف والصراخ إن لزم الأمر، كي يستر ضعفه الظاهر عليه وإن لم يعترف به، وأيضا كي يخلق وَهْمًا حوله بقوة ليست متحققة فيه.

من هنا، كان الهدوء قرين الحق، فلا ضعف كي يتم ستره، ولا حاجة لاختلاق أكاذيب، كون الحق لا معنى له إلا لأنه مبني على حقائق، ومن كانت الحقائق سنده فلا يحتاج إلى المراوغة واللف والدوران، والحقائق كما قال وزير الخارجية "عادل الجبير" خلال رده على القنصل الإيراني، إنها عنيدة، والسر في عنادها أنها ترتكز على معلومات موثقة لا يمكن الالتفاف عليها، والمعلومات الموثقة لا تتطلب الانفعال أو الصراخ أثناء سردها، فالهدوء سيفي بالغرض تماما.

فبهدوء إذًا، لنتأمل فيما قاله القنصل الإيراني، إذ قال إن اتهام إيران بالإرهاب مسألة غير منطقية أبدا، وألا ضرورة تستدعي اتخاذ بلاده شماعة تعلق عليها كل الأخطاء، وأن محاولة ربط القاعدة بإيران أشبه بالدعابة فـ"أسامة بن لادن" في الحقيقة هو مواطن سعودي، و15 شخصا من منفذي الهجوم على البرجين كانوا سعوديين، والنقطة الأهم هي محاولته ربط "داعش" بالسعودية، وأنها كما يدعي صنيعة سعودية تحظى بدعم وتمويل سعودي.

وفي الحقيقة، كان بودي أن يسترسل القنصل الإيراني في رغيه أكثر، فربما لو أُعطي الوقت الكافي لربط التطرف الذي تشهده المنطقة بتراثنا الديني ومناهج التعليم والسلفية وبإرث "ابن تيمية" وحلقات التحفيظ، وأنا هنا أفترض أشياء لم يقلها بناءً على أشياء حين قالها فعليّا أخذت أعيد المقطع لأكثر من مرة، كي أتأكد هل المتحدث هو القنصل الإيراني فعلا أم أحد إعلاميينا ومثقفينا الذين ملؤوا فضائنا العربي والمحلي بالترهات نفسها.

وبمناسبة الحديث عن الحقائق والأكاذيب، أليس ما ردده القنصل الإيراني من افتراءات هي نسخة تكاد تتطابق مع ما تردده بعض وسائل الإعلام العربية صباح مساء؟ أليست فكرة "سعودة داعش" التي أراد القنصل التأكيد عليها هي ما تتبناها بعض أقلامنا الصحفية ومسلسلاتنا؟ ألا يردد في مواقع التواصل والصحف والتحليلات التلفزيونية بأن اتخاذ إيران شماعة لكل الأخطاء مسألة تدعو للسخرية؟

أسئلة كثيرة تجعلني أشك في أن "عادل الجبير" لم يكن يرد على القنصل الإيراني فقط، وإنما أيضا على من يتبنون آراءه من بني جلدتنا، وأنه برده هذا يكون قد خرج تماما عن النسق الموازي العام، قد خالف كل برستيج إعلامي وبروتوكول ليبرالي.

إن الخطاب الهادئ الذي ألقاه وزير الخارجية "عادل الجبير" –جزاه الله خيرا- والذي نشيد به، هو تحديدا هذا النوع من الخطابات التي كان يتم وصف من يتحدث به، بأنه غوغائي غير موضوعي ولا منطقي!

إن هذا النوع من الخطابات والتي كان يتم حشوه في خطب الرجعيين وكتيباتهم التي توزع مجانا ولا تباع، فهل في الأمر تناقض أم إن سياستنا الخارجية تسير في خط مغاير لسياستنا الإعلامية ورؤانا الثقافية وحتى توجهاتنا الفنية، أو على الأقل تسبقهم بمراحل؟

فعلى سبيل المثال، أحد أهم أهداف سياستنا الخارجية في الوقت الراهن، أن يتم قطع أي رابط يربط السعودية بـ"داعش"، بينما إعلاميا وثقافيا وحتى فنيا هنالك محاولات، وإن كانت محدودة، لـ"سعودة داعش"!

إن الفرق بين السعودية وإيران هو فرق في الاتجاه لا أكثر، ففي الوقت الذي سارت فيه السعودية تجاه الضوء والأماكن المضيئة، وقررت أن تكون دولة طبيعية ملتزمة بالأعراف والسلوكيات الدولية، قررت إيران أن تتواجد في الأزقة المظلمة والظلال، وفي هذه الأجواء الانعزالية تمت صياغة مبدأ تصدير الثورة دستوريا، في هذه الظلمة أخذت تعتمد على الكائنات الطفيلية لتنفيذ أجندتها وتحقيق أطماعها، وبات دورها يتمثل في الدعم والمساعدة والتحريض، وما فعله وزير الخارجية "عادل الجبير" أنه أشار إلى الأزقة المظلمة وقال "ها هنا إيران" وهذه معلومة منه وليست رأيا، معلومة تستند على حقائق لا على فرضيات، الإشكالية هنا، أن فينا من لا يستوعب منطقيا، ولحد الآن، كيف تقوم دولة كاملة بحشر نفسها داخل الشقوق المظلمة، ومن لا يستوعب فيفترض أن كل ما يقال عن إيران أو معظمه ليس إلا محض افتراء، وعلى فرضيته هذه يبني له رأيا ثم يصدره على هيئة مقال أو تغريدة أو مسلسل تلفزيوني.. إلخ، والرأي الذي يتم بناؤه على فرضية ليس بقوة الرأي الذي يستند على حقائق.

لهذا، فإن إعلامنا اليوم ومثقفينا وكتابنا وحتى الفنانين -أصحاب الرسائل- الجميع مطالب بأن يسير بمحاذاة سياستنا الخارجية، لا خلفها ولا في خطوط موازية، فقد كلفنا عدم استساغة منطق بعض إعلاميينا ومثقفينا للحقائق الشيء الكثير، للدرجة التي جعلت القنصل الإيراني لا يجد ما يقوله لوزير خارجيتنا إلا ما يدور بيننا!

ولا أقول هنا، إنه لا يجوز الاعتراض أو إبداء رأي مخالف، إنما أقول إن على المنطق أحيانا أن ينوخ أمام الحقائق، فهذا أفضل من بناء فرضيات قد تكون منطقية لكن نتائجها كارثية، لأن الفرضية مهما كانت متماسكة ومحبوكة فإنها أضعف من المعلومة، والمعلومة أن فينا من يتبنى الخطاب الإيراني سواء عن قصد منه أو من باب الدرعمة.