في كل مرة تحصل لي مشاركة في فعالية ثقافية في البلدان التي تقود مصير العالم وفكرته ولغته وفنونه، يعاودني سيل من أسئلة خيباتنا وتأخرنا والمرارة أيضا، إزاء تأخرنا والمسافة المهولة التي تفصلنا عن العالم. قبل 4 سنوات أشرت إلى ما تفعله جامعة "أيوا" بأميركا، فهي ومنذ 51 عاما تستقطب سنويا الأدباء والمفكرين من أنحاء الأرض لشهرين كاملين، في برامج وورش وقراءات وفعاليات وقراءة في كل شبر من أنحاء المدينة، الدورة التي شاركت بها كان بها 31 كاتبا، من 28 بلدا، هل هناك دولة عربية واحدة تفعل هذا، فضلا عن جامعاتها؟

هذه المرة أشير إلى مدينة سيت، بجنوب فرنسا، مدينة صغيرة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، تشهد الدورة التاسعة عشرة لمهرجان "أصوات حية"، وترعى أكثر من 100 شاعر، من مختلف الأجيال والبلدان والثقافات، ثلثهم تقريبا من العرب، والجميع يقدمون قصائدهم وآراءهم وفنونهم، لـ9 أيام، منذ الصباح وحتى منتصف الليل، مصحوبة بالعروض الموسيقية، ومعرض كتاب، للناشرين من أنحاء أوروبا، وأنطولوجيا تجمع الشعراء بلغاتهم الأم، إلى جانب الفرنسية، وكل هذا يقوم عليه منظمون ومتطوعون، بلا كلل ولا تأفف، بل وبالحرف الواحد يقولون إن مهمتنا أن نعرف بعضنا، أن نحيا ونتعايش، أن نفرح، ونعيد الاعتبار للكلمة والفن والحب في وجه البندقية والصراع والساسة. أليس هذا سببا كافيا لتكون هذه البلدان كبرى وقوية، بلدان لا تحاكم القصيدة والمقالة والرأي، لا يؤرقها معرض كتاب، لا تجفل من فكرة أخرى أو معتقد مختلف، إنها لا تخشى على مستقبلها من الحرية.

الشاعر الفرنسي العجوز، إيف بونفوا، وقبل أن يموت، قال في تعبير جميل عما يفعله الشعر، إنه "الإحساس بهذه الحياة داخل الكلمات العالية في لغاتنا... إنه يجمع ويؤسس، يستقبل في موطن العمق هذا، ما يمكنه أن يكون تدريجيا إقامة إنسانية تجمعت أخيرا".

سيت الصغيرة، مدينة الشعر والموسيقى.. وهي مدينة المشي أيضا، لا توجد بها سيارات أجرة، القليل من الباصات فقط، ولو بقيت شخصيا في هذه البلدة المختصرة الساحرة، فعلى الغالب سأصبح عدّاءً، إن عليك أن تمشي بلا توقف، لأن القصائد والحفاوة بالحياة، والوجوه المليئة بالترحيب في كل زاوية، وإذا ما سألك أحد من أنت أو أين تسكن فقل على طريقة الصديق الرائع، أنطوان جوكي، "في الكلمات".