شاءت حقائق الجغرافيا والتاريخ أن يضم وطننا العربي، في معظم أقطاره، أقليات تأخذ طابعا عرقيا في مكان ما، وإثنيًّا في مكان آخر، ودينيا في هذا القطر وطائفيا في القطر الآخر. وكان بالإمكان أن يكون هذا التنوع مصدر إثراء للثقافة العربية، وأن يجعل من أمتنا واحة تزهو بكل الألوان، وأن يسهم في مسيرة التقدم والإبداع. لكن ذلك لم يكن واقع الحال في معظم البلدان العربية.
في ظل هذا الخلل الفادح، نمت وتضاعفت صبوات تلك الأقليات لتثبيت هوياتها الثقافية والقومية والدينية. وقد وجد دائما بين القوى الخارجية، من هو على استعداد لاستثمار نوازع الانعتاق، فتمت تغذيتها، وقدم الدعم المالي والسياسي وأحيانا العسكري لتسعيرها. شجعت الأقليات على القيام بمحاولات انفصالية عن الوطن الأم في بعض الأقطار العربية. وحتى لا يكون الكلام إغراقا في العموميات، نذكر بما جرى في شمال العراق وجنوب السودان، واستغلال ما بات معروفا بالربيع العربي، للقضاء على الهويات الجامعة، وبعث هويات قديمة مندثرة.
إن التهديدات والاعتداءات وحروب الإبادة التي تتعرض لها أمتنا، كما هو الحال في سورية والعراق وليبيا والصومال واليمن، وحرب الإبادة المستمرة قرابة 6 عقود بحق الشعب الفلسطيني، والتقارير التي تصدر من دوائر مشبوهة، بين فينة وأخرى، حول إعادة تشكيل الخارطة السياسية للوطن العربي، تجعل من الأهمية طرح موضوع الوحدة الوطنية من جديد، بجرأة ترقى إلى حجم التحديات المصيرية التي تواجه منطقتنا.
فقد فات الوقت الذي يمكن فيه دس الرؤوس في الرمال، والتظاهر بأن الأمور تجري على ما يرام. كما لم يعد مقبولا التعويل على علاقات إستراتيجية مع صناع القرار الكبار، ثبت وهنها عند أول اختبار حقيقي.
لا بد في هذه المرحلة العصيبة والحاسمة أن يصار إلى تسمية الأشياء بمسمياتها. فحالة الانهيار التي تمر بها الأمة، ومصادرة الهويات وغياب أوطان عن الخريطة السياسية للوطن العربي، تحتم البحث عن عوامل القوة والوحدة والتماسك والصمود بين أبناء المجتمع الواحد، من أجل تفويت الفرصة على الذين يضمرون الشر بحقنا.
لا بد من شيوع المحفزات التاريخية، ومختلف مقاومات الأمة وحيلها الدفاعية في نفس كل فرد، لإعادة الاعتبار للمفاهيم التي صنعت عصر النهضة العربية. والتأكيد على أن حقائق الجغرافيا والتاريخ قد صنعت نسيجنا القومي والوطني، وارتقت بهما إلى مستوى الانصهار والوحدة. وأن ما يحدث الآن من صراعات وحروب أهلية، وتفتيت لا يملك قابلية الاستمرار والصمود، لكونه نشازا في التاريخ العربي والإنساني، وفي كل الأحوال فإنه يجب ألا يغيب عن الذهن أن تحقيق الوحدة الوطنية ليس تجميعا لكم مهمل وراكد، لا ينتج عنه أي فعل إيجابي، بل هو صهر حقيقي وتفاعل خلاق ومبدع بين إخوة تجمعهم رابطة الانتماء إلى أمة، تجمع لغة ودين وهوية وقضية وآمال مشتركة، تجعل من السعي المشروع إلى هزيمة التطرف ومختلف عوامل النكوص، وإعادة الاعتبار لقضية الوحدة، أمرا منطقيا وموضوعيا.
وفي مقدمة الخطوات المطلوبة في هذا السياق، ترسيخ الوحدة الوطنية بين أبناء الوطن الواحد، والتسليم بمفهوم المواطنة، بما يعنيه هذا المفهوم في المجتمعات المتحضرة، تتحقق فيه المساواة بين البشر، وينال فيه الفرد موقعه الاجتماعي ووظيفته عن طريق كفاءته وقدراته ونزاهته، وليس عن طريق موقعه في السلم المناطقي والعشائري والطائفي. لا بد من إعادة صياغة مفهوم المواطنة الذي يقوم على أساس الاعتراف بأهمية دور الفرد، وأن يصار إلى ترسيخ قيم التسامح والتكافؤ والتكافل بين الجميع.
لسنا بحاجة إلى أن يذكرنا أحد من خارجنا بأهمية النظر في إعادة صياغة مناهجنا وتجديد هياكلنا وطريقة تفكيرنا بما يتناسب مع المرحلة التاريخية التي نعيشها. فذلك قانون حياتي وحتمي، عمل به أجدادنا من قبل، وجسدوه من خلال تجديد مناهجهم الفكرية والسياسية. وتمكنوا به أن يشيدوا واحدة من أعظم الحضارات التي عرفها التاريخي الإنساني. ولم يكن صدفة أن يحتوي الكتاب الخالد، القرآن الكريم على ناسخ ومنسوخ، وأن يسن الخليفة العادل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- تشريعات جديدة تمس المؤلفة قلوبهم وتجدد التشريعات القائمة فيما يتعلق بإقامة الحدود.
وبالقدر الذي تطورت فيه دولة الخلافة واتسعت حدودها وانضمت أقوام جديدة لها، بالقدر الذي نشطت وتجددت فيه حركة الفكر والأدب والفلسفة، مؤدية إلى بروز مذاهب فلسفية وفقهية جديدة.. وكان أن نتج عن ذلك تطور من الغنوص إلى العرفان ومن ثم إلى بروز علم الكلام، ودخول الفلسفة إلى السجال الذي قاده العلماء دفاعا عن الإسلام.
وقد شمل التجديد شؤون الأدب والفكر، فأصبحت هناك خصوصيات للفكر والأدب في صدر الإسلام وأخرى بالعصر الأموي وثالثة بالعصر العباسي وهكذا. وشملت حركة التجديد مذاهب الفقه والأدب ومختلف الأنشطة الاجتماعية، مؤدية إلى تطور في حركة العلوم، وتأسيس لعلوم جديدة في الجبر والفيزياء والكيمياء والفلك.
وهكذا فإن الدعوة، في لحظة اشتعال الحرائق في مناطق واسعة من الأرض العربية، إلى حركة تجديد شاملة في مفاهيمنا، تشمل إعادة الاعتبار لمفهومي المواطنة والوحدة الوطنية في تجانس مع نواميس الكون وقوانين التطور. وهي استلهام للموروث الخالد وسيرة الأجداد العظام، وجوهر رسالة الدين الإسلامي الحنيف، اقتداء بالقول المأثور "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا".