ما إن وقع الانقلاب الدموي الفاشل في تركيا حتى تبارى المغردون وبعض الناشطين في "القروبات"، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأطلقوا لأنفسهم العنان بتحليلاتهم التي ما أنزل الله بها من سلطان، وبأقوالهم غير الحق، ومنها أن المستهدف من هذا الانقلاب هو المملكة العربية السعودية، وأنها هي الضحية الثانية، وأن ما حصل في تركيا هو فصل من مؤامرة كبرى تستهدف السعودية.
وكأن المملكة العربية السعودية "كانتون" صغير في طرف من تركيا، أو أنها محمّية من محمياتها تستظل بظلها، وتعتمد عليها في وجودها وبقائها!، ونسوا أو تناسوا أن المملكة العربية السعودية كيان كبير ثابت الأركان، قوي البنيان، مرهوب الجانب، أعزّه الله تعالى بوحدة ترابه، وتماسك شعبه، وبقيادته الرشيدة التي اختارها الله عز وجلّ لخدمة بيته العتيق، ومسجد نبيه الكريم، فأمّن بهم البلاد، ووحّد بهم كلمة العباد، فكم من المحن والإحن والانقلابات والتبدلات والتغيّرات مرت من حول المملكة وهي صامدة لا تهزها العواصف، ولا تلعب بسفينتها الرياح، فكيف بها اليوم، وهي في أعالي درجات قوتها، وذرى مجدها وعزها ومنعتها أن تتأثر بانقلاب يقع في دولة على بعد آلاف الكيلومترات، وبينها وبين المملكة ما بينهما من دول حاجزة، وبحار فاصلة، ومسافات شاسعة.
فهل نسي هؤلاء أن المملكة العربية السعودية حينما بدأت مرحلة التأسيس في عهد الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن "رحمه الله" كانت السلطنة العثمانية ملء الدنيا وشطرها، وكانت عساكر الأتراك والكيانات المتحالفة معها تحيط بنجد إحاطة السوار بالمعصم، في كل من الحجاز والأحساء وحائل وعسير، وأن الملك عبدالعزيز جالدهم وجالد حلفاءهم، وانتصر عليهم، واسترد ما أخذوه من أراضي أجداده في الأحساء وغيرها من المناطق الأخرى، ثم سقطت الخلافة العثمانية، ومُحيت تركيا العثمانية من الوجود، وما زاد المملكة إلا تثبيتا.
وحينما قامت تركيا الحديثة على يد مصطفى أتاتورك، وامتلك ما قدر على امتلاكه من الأراضي في اليونان وبلاد الشام، لم يزد المملكة إلا قوة ورسوخا، ثم ما تلا ذلك من انقلابات عسكرية عدة أطاحت بحكومات مدنية منتخبة ذات أهواء متعددة من علمانية يمينية إلى يسارية ماركسية، والمملكة صامدة، ولم يقل أحد على مدى أكثر من نصف قرن من الزمان منذ الانقلاب الأول الذي أطاح بحكومة الرئيس عدنان مندريس عام 1960 أن المملكة هي المستهدفة، أو أنها الضحية الثانية، أو أن أيّا من تلك الانقلابات ما هو إلا فصل من مؤامرة كبرى أو صغرى تستهدف المملكة، حتى ذلك الانقلاب الذي أطاح بنجم الدين أربيكان "رحمه الله"، وحزب الرفاه الذي هو الوجه الآخر من العملة بالنسبة لحزب العدالة والتنمية وزعيمه إردوغان، لم يذرف عليه أحد دمعة واحدة.
إن الذين ذرفوا الدمع على الانقلاب الأخير في تركيا لم يجدوا مسوّغا لما ذرفوه من دمع سوى الاختفاء وراء التحسب لما قد يقع على المملكة من تبعات لو أنه نجح، أو التمظهر بمظهر الحرص على أمن المملكة وبقائها واستقرارها. وما كان عليهم من تثريب لو أنهم بكوا حتى تتناصل أضلاعهم دون الزج باسم المملكة، ودون التحسب لها بسوء العواقب "لا سمح الله"، أو تقزيمها إلى درجة أنها تهتز لأي عاصف قد يقع في أطراف الدنيا حتى ولو كان على بعد 4 آلاف كيلومتر عنها!.
أنا شخصيا ممن حزن لوقوع ذلك الانقلاب العسكري المشؤوم على الحكم الديموقراطي في تركيا، وممن فرح لفشله، وانقشاع الغمة عن ذلك البلد الجميل، وتغريداتي تشهد بذلك، وأيضا أنا من المعجبين بإردوغان وبشجاعته وصراحته وواقعيته، ونظافة يده، كما هو مسموع عنه مذ كان رئيسا لبلدية إسطنبول، ومعجب بنهوضه بتركيا الحديثة وبتوجهاته الإسلامية في بلد كنا ونحن صغار نسمع أنه كان يضيِّق على المسلمين، وأذكر أنني ومعي زوجتي مُنعنا من دخول مكتبة جامعة إسطنبول؛ لأنها كانت منقَّبة، على حين أنها وهي بنقابها طافت جميع المكتبات العامة في إنجلترا.
إعجابي بتوجهات إردوغان الإسلامية ليس لاعتبارات حزبية، فأنا ليس لي أي توجّه حزبي إسلامي أو غير إسلامي، أو أي انتماء فئوي تحت أي تصنيف، فقد تعاطفت مع تركيا في عهد تورغوت أوزال، وفي عهد نجم الدين أربيكان "رحمهما الله".
وكم كنت حزينا حينما التقيت ومعي زوجتي بعض خريجات الثانوية العامة المميزات خارج أسوار الجامعات؛ لأنه من غير المسموح لهن الالتحاق بالجامعة لكونهن يرتدين الحجاب.
فرحت كثيرا حينما كسر إردوغان وحزبه تلك التشريعات العلمانية البغيضة في السنوات التي خلت من حكمه، حينما كان رئيسا للوزراء، وأنا متأكد أنه سيخرج بعد هذا الانقلاب أكثر قوة.
وأنتم أيها المتباكون لا تنظروا إلى ما بين المملكة والجمهورية التركية الحديثة إلا في إطار العلاقات المتميزة، والاحترام المتبادل، والتعاون الإسلامي والدولي المثمر، بوصفهما أهم دولتين في الشرق الأوسط، وفي منظومة التعاون الإسلامي.