خرائط الفكر هي التشكيلات الذهنية التي نتبناها للتفكير في تقسيمات الهويات البشرية أو الخرائط التي يتم من خلالها تشكيل حدود الذات والآخر. كل ثقافة ترسم خريطة معينة تقدم من خلالها العالم والآخرين لأفرادها. الثقافة الدينية ترسم خرائطها بمعايير دينية، والثقافة الوطنية ترسم خرائطها بمعايير وطنية، بينما تعتمد الأطروحات العرقية أو اللغوية معايير العرق أو اللغة لتحديد جماعة الذات من جماعة الآخر. ذكرنا في المقالات السابقة أن هذه الخرائط تلعب دورا مهما في تصوراتنا للعالم وعلاقاتنا مع الآخرين وبالتالي فهي تستحق الفحص والمراجعة الدائمة. هذه المراجعة تتوجه لنقطتين أساسيتين الأولى فحص طبيعة هذه الخرائط والثانية فحص ما ينتج عنها من مواقف وعلاقات. تحدثت عن تاريخية تلك الخرائط وارتباطها بظروف تاريخية معينة وإشكال مدها في ظروف مختلفة. الفكرة الأساسية كانت أن تغيّر ظروف ومعادلات الواقع وشروط حياة الناس يفترض أن يؤثر على تلك الخرائط وإلا أصبحت مجرد شعارات لا علاقة لها بالواقع وتعمل كحجاب ضد الفهم والتعامل الدقيق مع هذا الواقع. جزء أساسي من كشف تاريخانية هذه التقسيمات هو ربطها بالأهداف والتوجهات الأيديولوجية للحظة نشأتها. أي الوعي بأن هذه التقسيمات كانت نتيجة لأهداف مجموعة محددة من الناس. هذا الإيضاح سيساعدنا على مقارنة أهدافنا بأهداف أولئك أو أننا نضحي بمصالحنا في سبيل تحقيق أهداف غيرنا. هذه النقطة سأحاول إيضاحها من خلال مسائلة الخرائط الطبقية والخرائط العرقية/اللغوية.
"يا عمال العالم اتحدوا". كان هذا شعار الخرائط الماركسية التي اعتمدت التقسيمات الطبقية للناس. التقسيم الأساسي كان بين طبقة العمال الكادحين وطبقة المالكين لوسائل الإنتاج. بناء على هذه التصورات انطلقت حركات سياسية تحررية في العالم كان هدفها تحرير العمال والبروليتاريا من سلطة المحتكرين. هذه الأهداف تبنتها جماعات من السياسيين وقادة الحركات الأيديولوجية في مناطق كثيرة من العالم باعتبارها وسيلة للتغيير السياسي. جزء كبير من هذا الاستعمال تم في مجتمعات زراعية لم تصل بعد للمرحلة الاقتصادية الرأسمالية التي تصورها ماركس. طبقة الفلاحين لا العمال هي الأكثر انتشارا في تلك الدول مثل روسيا والصين. في تلك المناطق كانت التقسيمة الماركسية للعالم الصناعي الرأسمالي المهيئة للثورة العمالية غير موجودة، ولكن الأهداف السياسية للجماعات الأيديولوجية بررت استعمال تلك الخرائط. الوصول للسلطة كان هدف استعمال تلك الأدوات في ظروف مختلفة عن الظروف المصممة لها. النتيجة المتوقعة لهذا التعسف كانت كمية هائلة من العنف تجاه الناس وظروفهم المعيشية لتترافق مع التصورات الأيديولوجية للطبقات الحاكمة.
المجاعة الكبرى في الصين 1958-1961 والتي ذهب ضحيتها أكثر من 15 مليون إنسان (حسب الإحصاءات الحكومية المتحفظة) نموذج لهذا العنف. نظرا لرغبة الحكومة في نقل الصين من الحقبة الزراعية للحقبة الصناعية لتتوافق مع التصور الماركسي فقد تبنت سياسة القفزة التقدمية العظمى The Great Leap Forward مما أربك النظام الزراعي وتموين الاحتياجات الأساسية وأنتج قحطا هائلا دفع ثمنه ملايين البشر.
النموذج الآخر هو الأيديولوجيا العروبية التي انطلقت في الشام في بداية القرن العشرين كتعبير عن رغبة التحرر من الحكم العثماني التركي للمجتمعات ذات الغالبية العربية. نتج عن هذا تصور أن العرب في كل المناطق التي يعيشون فيها يجب أن يتحدوا في ظل برنامج ووحدة سياسية واحدة. هذه الفكرة أنتجت نخبا فكرية وعسكرية استخدمت القوة العسكرية والانقلابات للسيطرة على الدول باسم هذه الشعارات. التفاوت بين منافع هذه النخب وبين منافع الناس واضح في التساؤل عن فائدة نظام سياسي واحد يجمع العراقي بكل ظروفه الاقتصادية والتاريخية بالموريتاني في أقصى إفريقيا بظروفه وشروطه المختلفة. تقسيم الناس لعرب وغير عرب تصادم مع الظروف الطبيعية لمناطق كثير يعيش فيها العرب مع غيرهم في شروط واحدة وللتاريخ الثقافي المتنوع لتلك المناطق، والذي يشكل العامل العربي واحدا من تلك العوامل بجوار غيره من العوامل. في شمال أفريقيا مثلا الأرض قسمة بين تقسيمات متنوعة من الناس منها التقسيم العرقي واللغوي الذي شمل العرب والأمازيغ بشكل أساسي. الأيديولوجيا هنا أربكت هذا الواقع لتصبح الأرض للعرب فقط والبقية من غيرهم من أهل الأرض أصبحوا يعيشون في ضفاف ورعاية العرب. "الوحدة العربية" هنا كانت مبررا لأنظمة عديدة قمعت شعوبها واستنزفت مواردها ومارست العدوان على جيرانها. هل هدف هذه الأيديولوجيا وتقسيماتها هو فعلا هدف الناس وغايتهم في الحياة؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي يسعى هذا المقال لتحفيزه.
ربط الخرائط الفكرية بالأهداف والمساعي الأيديولوجية والاقتصادية التي نشأت فيها يجعل من الممكن مساءلة مدى نفع أو ضرر تلك الخرائط. أحد أهم نتائج الأيديولوجيا أنها تدفع الإنسان للدفاع عما يضره. هذا الأمر يصل لمراحل حادة يقتل الإنسان فيها نفسه ويقتل الآخرين دفاعا عن هذه الأيديولوجيات. هدف المقال هنا هو الحركة باتجاه مغاير يهدف لفحص نفع الخرائط الذهنية التي من خلالها نتصور الذات والآخر. البحث في الشروط السياسية والأيديولوجية خلف تلك التقسيمات وارتباطها بأهداف جماعات محددة يساعدنا عن الانفصال النسبي والمراجعة، خصوصا وأن هذه التقسيمات تقدم عادة كمسلمات ومقدمات طبيعية أولية تحكم ما بعدها ولا يحكم شيء عليها.