أفضل ما يمكن أن نصف به أحداث العالم في الفترة الأخيرة القول: إنه "على صفيح ساخن"، من أحداث الاقتتال في الشرق الأوسط والدمار الذي خلفه "الخريف العربي" في أرجاء كثيرة من العالم العربي، والعمليات الإرهابية في دول عربية وإسلامية وغير إسلامية، والصراعات السياسية والاقتصادية هنا وهناك.
وعلى المستوى المحلي في وطننا المملكة العربية السعودية، فنحن نعيش صراعا على عدة جبهات، على الحدود الجنوبية مع المليشيات الحوثية، وفي العلاقات الدبلوماسية الخارجية، وهذان الشأنان قيض الله لهما رجالا مخلصين يؤدون أدوارهم فيهما بجدارة واقتدار.
لدينا داخليا حربنا الشرسة مع التطرف والإرهاب الذي كل مرة يزداد بشاعة وسوءا عن المرة التي تسبقها، ولا تعلم إلى أي مدى يمكن أن يصل إليه، فلم يحترم مؤخرا حرمة الوالدين ولا قداسة الزمان ولا حرمة المكان.
لكن الجهود الأمنية المبذولة في مكافحة الإرهاب، وتتبع الخلايا المنتمية فكريا لـ"داعش" وغيرها من الأحزاب الإجرامية، قائمةٌ على قدم وساق، ولهذه الأجهزة ضرباتها الاستباقية الكبيرة، وكل هذه الجهود والعمليات الأمنية نعلم أنها، رغم أهميتها، لا تكفي وحدها أن تقاوم ردة "الفكر"، بينما الفكر نفسه ما زال موجودا ومنشرا ومؤيدا في السر والعلانية، نعني تحديدا الفكر المؤيد لتوجهات الإرهاب المتخذة من التطرف والإقصاء وقتال الآخر وكراهيته مذهبا لها تقره وتؤمن به وتجد له ما يبرره.
وكما نكرر كل مرة أن الفكر لا يجابه إلا بفكر مثله، فضرورة تبني فكر مضاد متزن وأكثر نجاحا وتماهيا مع معطيات الزمن وأساليب الإقناع أصبحت حتمية، خاصة أن الملاحظ في العمليات التي وقعت داخل الوطن في الأشهر الأخيرة، وفي قوائم المطلوبين هي لشباب صغير في العمر، في بداية مرحلة الشباب وتشكل الوعي، لا بد أن تفكيره انحرف نحو الاتجاهات الإرهابية المتشددة بشكل مندفع ودون تثبت وإدراك للحقائق الغائبة أو المغيبة عنه.
المشاركون في العمليات الإرهابية الأخيرة ضد رجال الأمن وضد أقاربهم ومواطني بلدهم، فضلا عن أنهم في أعمار صغيرة، فهم أيضا لهم ماضيهم المختلف؛ منهم من لم تسجل ضده أي سوابق أو جنح، ومنهم متعاطو المخدرات، أو المتورطون مع جماعة "فكّوا العاني"، أو من سبق الإفراج عنهم ضمن برنامج المناصحة الشهير. ولكنهم يجتمعون جميعا في فكرة النضال لتحقيق هدف واحد، وهو نصرة الإسلام "حسب فهمهم"، وجميعهم يرغبون في الموت من أجل الجنة عبر بوابة الجهاد والشهادة.
ولا شك أن أيا من المشاركين في تلك العمليات الإرهابية أو ممن ينتمي إليهم داخل البلاد أو خارجها، ومن يحمل ولو جزءا يسيرا من الأفكار المشتركة معهم؛ يعاني ضياعا في القيم التي يؤمن بها، والتي تتصارع داخله حتى تتغلب عليه بمساوئها، وتجعل منه مسخا منزوع الإنسانية، قابلا للتعبئة والتبعية والتنفيذ لأي توجه تكفيري وانتحاري.
من نماذج الضياع التي يشعر بها الشباب في عصرنا الحالي: ضياع الهوية والانتماء؛ فتجده يتخبط بين انتماءات عدة، نُقِلت إليه من الأجيال السابقة سواء عبر الإعلام أو التعليم أو الأسرة، والتي تبكي على ضياع الإسلام وتدعو إلى الوحدة الإسلامية التي تستدعي إقصاء غير المسلمين وقتالهم، أو تدعو إلى القومية والعروبية أو المذهبية، فتضيع ملامح هوية النشء بين وطن له مسماه الخاص، وبين بطولات متخيلة تحت شعارات واهمة لتلك الانتماءات.
ومن نماذج ضياع الشاب أيضا، الضياع السياسي والمدني والاجتماعي، فيجد نفسه بعيدا عن المشاركة واتخاذ القرار، ولو عبر مؤسسات مدنية أو جمعيات أهلية، فيعتاد الفوضى والتخبط، ولا يدرك قيمة اتخاذ القرار والمشاركة الاجتماعية بصورها المهنية والتطوعية، وهذا يقوده إلى ضياع آخر ذي طابع ثقافي ووجداني، فهو حينما لا يمتلك مشروعا مدنيا متحضرا لن يكون لديه إرث ثقافي وفني يثق فيه وينشغل به دون حرج، فيصبح الشتات داخله كبيرا والهوة سحيقة بين الواقع المتطور حوله والضياع الذي يجذبه من كل اتجاه، فيصبح الطريق للخلاص من هذا النقص وتعويض الشتات الذي يعيشه هو التسليم للسلطة الفكرية الأقوى والأقدر في الإقناع، والبحث عن أي عمل بطولي قد يظهر في صور مختلفة كمخالفات شرعية أو قانونية واجتماعية "تفحيط–درباوية- مخدرات- شذوذ- إلحاد"، أو الانضمام إلى الفكر المتشدد الذي يظن فيه الصلاح والنجاة لصورته الدينية ويصنع بطولاته تحت راية الجهاد، ويصبح موعودا بالنصر والجنة، فيقدم نفسه والآخرين باستلاب ودون ندم للموت والعدم.
التركيز على شريحة الشباب في العناية وعلى الشريحة الأقل سنا، هو الواجب الذي يجب أن تهتم به المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، وتسخّر لها الجهود والأجندة المادية والبشرية، وأن تأخذها على محمل الجد، وتدرس الأسباب التي تدفع شابا في مقتبل العمر والأحلام أن يتنازل عن كل شيء، ويجعل من نفسه وجسده وقودا لنيران الصراعات الفكرية.
دراسة الحالات التي حدثت دراسةً علمية مستفيضة هي الخطوة التي ينبغي البدء بها، والاعتراف أن لأساليب التنشئة والتربية وطبيعة الحياة الاجتماعية دورها في توجيه مثل هؤلاء الشباب، وأن نعترف بأن جيل اليوم يعيش إحباطات مختلفة علينا أن نفندها ونعمل على حلها، وأن نتجاوز الأساليب القديمة في طرح الحلول وفي العلاج والحوار.