الحفاظ على الكتابة بشكل عقلاني ومنطقي مشقة فائقة في المرحلة الاستثنائية التي نعيشها، وليست الكتابة -هنا- عملا بقدر ما هي وسيلة لمقاومة الموت، ورفض اعتياده، والتمرد على قبول العيش معه، أو العيش به، أو العيش من أجله.

الكتابة هي هذا الإذعان للحياة، ورصد استثنائي أيضا لهذه الفرادة السورية في التعامل مع حكايات الموت وخططه المحكمة ومهاراته المتنوعة لاصطياد من بقي على قيد الحياة. هي أيضا هذه المناورات اليومية لابتداع ظل أمل ضيق ومساحة صغيرة خاصة للحياة والكتابة. فما الذي يستحق أن نكتب عنه نحن السوريين بعد اليوم -وما الذي كان يستحق أصلا- سوى الحياة؟ وما الذي سنتحدث عنه لسنوات -كنا نتحدث عنه أيضا لسنوات- سوى البقاء على قيد الحياة؟ أليست الحياة والكتابة عن الحياة الاستثناء الوحيد للموت؟ إذًا، علينا منذ هذه اللحظة أن نكتب ما نشتهي كتابته، أن نكتب بلا منطق وموضوعية أو مبرر إن رغبنا. أو ليس البقاء على قيد الحياة المبرر الأكبر لكل شيء، وللكتابة أيضا؟ أن نكتب دون اكتراث بأخطاء الإملاء والنحو والصرف وحيل البلاغة ومكائد الأدب والتحليلات.

يمكننا إن شئنا أن نكتب، عن الأطباق التي نشتهيها عوضا عن كتاباتنا السياسية بخصوص اتصالات أوباما ببوتين حول الأزمة السورية ومصير الأسد ورياضة الجودو التي يعشقها القيصر، وعن حفلات أعياد الميلاد الصغيرة التي تجمع العائلة -من بقي منها- عوضا عن لقاءات كيري ولافروف وتصريحاتهما المناورة، ومواساتهما لديمستورا اليائس من إحراز تقدم في الحل السياسي، وعن مسرات الولادات الجديدة تحت القذائف عوضا عن إحصاءات الأمم المتحدة حول عدد القتلى من الأطفال في المناطق التي يقصفها النظام وعدد الأطفال الذين تجندهم داعش في برنامجها لحز الرقاب وجز الرؤوس، وعن أعراس العشاق الهاربين من القصف عوضا عن الكتابة عن الأرقام التي تؤكد ارتفاع نسبة العنوسة نتيجة انخفاض عدد الذكور في سورية بسبب الموت في الحرب أو الغياب في المعتقلات أو الهجرة، ولنكتب عن حكايات الوقوف الطويل في طوابير الخبز والحر اللاهب عوضا عن الوعود المستمرة ببذل جهود أكبر لجعل النظام أكثر التزاما بإدخال المساعدات الإنسانية، وعن غلاء الأسعار والشهوات المؤجلة عوضا عن أخبار دونالد ترامب وهيلاري كلينتون وسباقهما إلى البيت الأبيض، والتعويل على الرئيس الأميركي الجديد لإنقاذ ما سيكون قد تبقى من سورية، وعن الاحتفاء اليومي بالعودة إلى المنزل دون قذيفة في الرأس أو التسكع في شوارع باريس وبرلين وستوكهولم وبيروت والأردن ومخيمات اللجوء والعراء مع ألف قذيفة في الذاكرة عوضا عن الانقلاب الفاشل على إردوغان والمنطقة الآمنة التي سيعيدنا إليها. ما الذي يستحق الكتابة عنه أكثر من هذا؟

الكتابة والألم والبكاء والفرح والحب والغيرة والشهوة والجشع والحسد والإحسان والشهامة والأحلام والأمنيات والمكائد الصغيرة وحفلات الشواء وسهرات النميمة والقيظ الشديد في شوارع الغبار والخوف والسجون والبراميل والقذائف والموت هي موتنا المؤجل وحياتنا الراهنة، فلم لا إذًا؟

في روايتها غرفة خاصة للكتابة تتحدث فيرجينيا وولف عن أهمية أن يكون للمرأة الأديبة حيزها الاقتصادي والمكاني المستقل كي تتمكن من الكتابة. السوريون كتاب بلا غرف خاصة ولا قواعد كتابية، هم يكتبون عن الحياة كيلا يموتوا.