وأخيراً تنفس مئات آلاف المهاجرين العرب إلى أوروبا الصعداء بعد أن تبين للسلطات الألمانية أن مجرم ميونيخ لا علاقة له بالهجرة ولا بإرهاب داعش. استغرق الأمر ما يقرب من عشر ساعات لكشف هذه الحقيقة، وخلال هذه الساعات القصيرة كانت أنجيلا ميركل في قلب وبؤرة الإعلام العالمي نقداً لاذعاً لسياساتها المرنة مع طالبي اللجوء والهجرة. وللحق فإن سياسات ألمانيا، ومستشارتها ميركل، تصرفت مع قصة المهاجرين من منظور عاطفي أخلاقي، ولكنه أيضاً غير واقعي وعملي، وبالتأكيد سيدفع هؤلاء المهاجرون وجيلهم القادم ضريبة عالية توازي حجم الكثافة الهائلة التي استقبلتها ألمانيا كنصيب منهم. ميونيخ وحدها تستأثر بنصف مليون مهاجر.
ميركل ومعها ألمانيا لم تلتفتا لقوانين وحتمية النظرية الاجتماعية التي تشرح العلاقة ما بين الوافد وبين (المستقبِل والمستقبل)، بكسر الباء ثم فتحها في الكلمتين المترادفتين السابقتين. هؤلاء بمئات الآلاف يدخلون ألمانيا من البوابة الخلفية الهامشية الضيقة ومتوسط أعمار من الثلاثينات، وهو العمر القاتل مع الفرد إلى نزعة الانتماء والهوية. أمام هؤلاء رحلة شاقة مكلفة لا نحو سوق العمل والوظيفة فحسب، بل باتجاه بوصلة الاندماج والتعايش مع المجتمع المضيف بثقافته المختلفة. تدافعوا بهذه الكثافة التاريخية إلى ألمانيا قادمين إليها من نظم تعليمية متخلفة هي أقرب إلى محو الأمية، ومع الزمن سيجدون أنفسهم غرباء في مجتمع صناعي بالغ التعقيد والتطور، وهنا ستصعب أمامهم جداً طبيعة المنافسة في سوق تقني بالغ الشراسة. ومع حاجز اللغة وتباين المرجعية الثقافية أيضاً سيكتشف هؤلاء، ومع الوقت أيضاً، أن السلاح الوحيد أمامهم ليس بأكثر من (الزند والذراع)، كمجرد عمالة رخيصة بكل ما لهذا الشعور من تكلفة. نحن لا نتحدث عن مجرد أفراد يمكن استيعابهم وتوزيعهم بل عن ما يقرب من مليون ونصف مهاجر عربي في ظرف خمس سنوات، وهنا تقول نظرية علم الاجتماع إن هؤلاء سينكفئون إلى (جيتوهات) مغلقة تمارس ثقافتها الأصلية وتغرق في عالمي الفقر والجريمة. سيكون هؤلاء وجهاً لوجه في مواجهة الصدمة الثقافية، ولكن وهنا الخطورة بشكل جمعي. هو بالضبط ما كان لفرنسا وبريطانيا مع مهاجري مستعمراتهما السابقة، ولربما نجت ألمانيا سابقاً من هذا الداء لأنها لم تكن دولة استعمار سابقة. ستجد ألمانيا نفسها خلال عقد من الزمن أمام الجيل الوليد من صلب هؤلاء الذي ينشأ ويتكاثر في بيئة ظروف مكتملة مثالية لمفاهيم الانفصام ما بين تذبذب (الهويات القاتلة).
والخلاصة أنني أجزم أن هؤلاء المهاجرين هم الضحية وهم أشبه بالهارب من الجحيم إلى الزمهرير. على ألمانيا والغرب أن يستقبلا هؤلاء سوياً بسياسات عقلانية وأكثر واقعية.