ما زلت أذكر بحميمية؛ ذكرى ذلك العدد من مجلة فواصل الشعرية، وذاك اللقاء الذي استضافت فيه المجلة الشاعر الكبير الحميدي الثقفي، وكان المانشيت على لسان الثقفي: أنا الفأر الذي سيهدم السد.
بحميمية ذكرى ثانية، ما زلت أذكر ذلك التصريح الصحفي الذي نشرته جريدة الرياضية على لسان بدر بن عبدالمحسن، بأن بدرا يتساءل عن جديد الشاعر الحميدي، وبدر هو من هو، في تاريخ الشعر العامي.
أظن أن تجربة الحميدي الثقفي هي أنضج تجربة حداثية في كتابة النص العمودي، ذلك أنها خرجت من المسرح المضحك الذي كان يعرض قصائد شعراء حداثيين آخرين، كانت قصائدهم موغلة في الغموض والرمزية، التي لا شعر فيها، ولا طعم لها.
ميزة شعر الحميدي أنه صدم الذائقة القرائية التقليدية بتراكيب وصور شعرية لم يألفها من قبل، فهو مثلا، صنع في مصنعه التوليفي الإبداعي حليبا للسراب، لمّا قال:
"صبّي الغيم يا سلمى لناسٍ غلابه
من عطشهم على الما يحلبون السراب"
وهو وفي ذات المصنع اللغوي التوليفي المدهش، يوائم بين عُنصريّ الماء والنار، في علاقة تكوينيّة في غاية التعقيد والجمال الفني:
"أعص والاّ طيع عصيانك بطوعك
لا تطفّي جمرة الما في يديّة".
لقد كسر الثقفي بقصائده الحداثية الواعية، نمطية التلقي البصري والوجداني والحسي المعتاد، وبدأ يخلق للشعر العامي قارئا جديدا بذائقة جديدة وفهم شعري جديد، فكان واحدا من أهم تجارب الشعر العامي في الخليج، بل وفي العامية العربية.
كل تجربة الحميدي الثقفي تدور في دائرة الذات المُعذبة والمغتربة، ولكن في قالب لغوي حديث اللفظ والتركيب الشعري، إذ يُفجّر طاقة المفردات الدلالية، لتتوالد صورا ومعاني جديدة وغير مألوفة:
"في سلّة أحلامي خبر يرفض حصار المبتدى
انا الفقير اللّي نطق بأفواه كل المُعدمين
ابي تزيديني ضلال الشاعر ان ضل اهتدى
وابي على طول انتظر وانتي تجين ولا تجين".
باختصار طويل: هدم الحميدي الثقفي جدار القصيدة العامية القديمة، كما هدم فأر مأرب سدها العالي والصلب.