(يا كشاف العرب دوما حارس الأوطان).

مطلع لأنشودة كنا نشيلها غلمانا وفتيانا، في المدارس ومعسكرات الكشافة، أنشودة تضج حماسة وثورية ورثتها الكشافة العربية من ذلك الزمان الثوري الغابر.

كنا بآلية كي لا أقول بلاهة نردد منتشين:

(شبت ثورة في الخليج حطمت الاستعمار

من قطر لعمان للبحرين كلها نيران).

لكن اليوم فتيان وشبان الكشافة وهم ينتشرون في ساح عرفات، يمثلون ذواتهم، ويعبرون عن عصرهم، الذي عولم كل الأشياء، أزاح الوهم والحدود بشركات متعددة الجنسيات، عابرة القارات، عصر اقتصاديات السوق، وتسيد تحالفات رأس المال فقط، عصر ذوّب الخصوصيات ويجنح إلى أحادية الثقافات أو (أمركتها) بحسب بعض التيارات، ولكنه لن يقدر، ولا أراه بقادر ـ على الأقل في المدى القريب ـ على تذويب ما يعبر عن هوية الأمة.

هذا التعبير الخلاق ـ شكلا ـ الذي ستبصره الملايين اليوم، والحجيج يغمرهم بياض الإيمان وهو يرف كأجنحة طيور مطمئنة، يجعلنا نمعن في الحلم والاستشراف بأن ينعكس هذا الإيمان على النفوس فيملؤها سكينة، وعلى العقول فيجعلها أكثر استخداما له، وتفعيلا للمنطق، وعلى السلوك فيصيره ممارسة حضارية، تنفي حقيقة الواقع الذي نعيش، بأن هذه الملايين (ليست إلا كغثاء السيل).

وإذا سلمنا بأن شبان الكشافة الذين يمخرون شوارع عرفات الآن من (خط واحد لخط عشرة) قاطعين وادي نمرة ومتسلقين جبل الرحمة، إنما خلقوا لزمانهم، يتعين علينا أن نفترض أنهم نشؤوا بعيدا عن تلك الشعارات الثورية، واقتربوا كثيرا من الرغبة في ألا تبقى بقية الأشياء والإيمانيات شعارا كذلك.

ولعلهم يصادفون في ممراتهم من يذكرهم برائعة شوقي:

(إلى عرفات الله يا خير زائر

عليك سلام الله في عرفات

ويوم تولي وجهه البيت ناضرا

وسيم مجالي البشر والقسمات

على كل أفق بالحجاز ملائك

تزف تحايا الله والبركات).

فيرقون متطامنيين، ويدركون دلالات تجمع هذه الحشود بكل تعدديتها واختلاف سحناتها وحمولاتها الفكرية ومرجعياتها الثقافية والسسيولوجية، بإحالتها إلى زمن لألأة ومعاني الحج الأكبر، يوم وقف نبي الأمة صلى الله عليه وسلم، ملقيا خطبة الوداع (أول بيان لحقوق الإنسان) في التاريخ. البيان الذي علينا أن نثابر طويلا، ونكافح كثيرا لاستعادة إشراقاته إذا ما رمنا ـ عن اقتناع ويقين بعيدا عن الشعاراتية والزيف ـ الهرب بعيدا عن (أننا غثاء كغثاء السيل).

الصورة التي سيتابعها الملايين في أنحاء المعمورة الآن، كيف يمكن استخلاص معانيها الدفينة، ودلالاتها ووجوهرها الإنساني البهي وعظاتها، التي يمكن أن تقودنا لأول الشاطئ، كيما نلج الثبج، ونبرح تأخرنا في سباق الأمم، بكل ما تنوء به رقابنا من هموم وعذابات وأشواق مؤجلة برسم التخلف والانكسار؟

دققوا جيدا في الصورة، ينبت بين حناياكم تفاؤل بحجم ما سيسكب من دموع استغفار ورجاء في هذا اليوم العظيم.