من "إسطنبول" التركية إلى "نيس" الفرنسية والسبحة لن تتوقف؛ أحداث وإن اختلفت بأشكالها البانورامية وأهدافها لكن شيئا واحدا يجمع بينها، ألا وهو الإرهاب، لكن الفارق هنا أننا أمام ظاهرة انتقامية تكاد تكون جديدة حتى وإن بدت ساذجة في شكلها، فسذاجة الحدث الذي ضرب نيس الفرنسية ظهر بقدرة سائق شاحنة على العبور لمنطقة التجمهر لمشاهدة الألعاب النارية، ودعس الحشود المجتمعة التي كانت تحتفل بالعيد الوطني الفرنسي، "يوم الحرية" وراح ضحيته 84 قتيلا و202 جريح، منهم 50 طفلا، وعشرات حالتهم حرجة، من مختلف الجنسيات الفرنسية والأجنبية، يشكل هذا العدوان في الواقع ظاهرة انتقامية جديدة تستخدم أدوات بسيطة ومتوافرة أمام كل راغب بالانتقام، ويعد هذا تطورا نوعيا خطيرا في تاريخ العمليات الإرهابية، منذ أحداث 11 سبتمبر التي ضربت الولايات المتحدة، إذ لم يعودوا اليوم بحاجة إلى تهريب الأحزمة الناسفة والقنابل المتفجرة، أصبح بإمكانهم التفنن وبكل سهولة ويسر ومن دون أعباء مالية استخدام أدوات ووسائل بسيطة في القتل والتدمير كالشاحنات والحافلات واستهداف المدنيين في أماكن تجمعاتهم.
وللعلم فإن بساطة هذه الوسائل المستخدمة في القتل دائما ما تحوز على النجاح في مواجهة الأجهزة الأمنية، نعم هو نجاح لا يؤدي إلى نصر محتوم ولكنه قادر على تحقيق الهدف وهو الإيذاء المطلوب للخصم، وهنا يكمن التحدي إذ كيف يمكنك مراقبة الشاحنات والحافلات في كل الشوارع المزدحمة بالناس؟ كيف يمكنك رصد الذئاب البشرية الفالتة في الشوارع والطرق المزدحمة؟ واللافت كذلك أن منفذ هجوم نيس الحامل للجنسيتين الفرنسية والتونسية، لم يكن على قائمة المراقبة لأجهزة المخابرات الفرنسية، أي أنه غير مدرج على قوائم الإرهاب، ولكنه كان معروفا لدى الشرطة فيما يتصل بالجرائم الواقعة تحت القانون العام، مثل السرقة والعنف وتعاطي المخدرات، وهذا بحد ذاته يعد تطورا لافتا إذ إن "داعش" لديها تكتيك جديد وهو عدم استقطاب المتطرفين دينيا من أبناء الجاليات الإسلامية في أوروبا وأميركا، لأن هؤلاء عليهم رقابة أمنية، والبديل هو في استقطاب شباب متأزم يجد في الانتقام خلاصه، يعيشون انفلاتا أخلاقيا وإنسانيا، ويعانون أزمات نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية، وهو ما يشكل صيدا سهلا لاعتناق أيديولوجيات التنظيمات الإرهابية التي تقتات على كراهية الغرب الكافر، والتي لطالما تردد أنشودتها الحماسية ضد الغرب الصليبي الحاقد والمتآمر على المسلمين، وتحرض المسلمين في كل مكان للانتقام والثأر من هذا الغرب الذي يستهدف دولة الخلافة التي تمثل الإسلام الحقيقي في زعمهم.
لكن هؤلاء الشباب بالنتيجة هم ضحايا خطاب الكراهية، ولا يعفينا أن نردد بعض الجمل التقليدية أنهم فئة ضالة أو مغرر بها، كما أنه من غير المقنع أن نكتفي عقب كل حادثة إرهاب بترديد: "الإرهاب لا دين له ولا جنسية"، حقا الإسلام بريء، لكن هذا الإرهاب الذي يعانيه العالم اليوم وراءه عرب مسلمون، ونحن مسؤولون عن أبنائنا التائهين الضالين.
مواجهة الإرهاب بكل صوره وأشكاله وعلى كل الساحات واجب الجميع، وهو مشروط بإعلاء قيمة الإنسان أولا وقبل أي شيء.