يأخذ معظم المستمعين إليك أو المستمعين إلى العالم بأكمله، معظم ما يصل إليهم بشخصنة مشحونة بتشنجٍ فظيع، قاتم، سيئ، رمادي، وأحيانا وصولي.
يشخصن المستمع كل ما يصل إلى أذنه، وكل ما يقرؤه، وسواء أكانت ردة فعلك تجاه حدث عام أو خاص، فإن ردود أفعال الآخرين تجاهك لا بد أن تتعاظم بداخلك، حتى وإن كنت ترغب تماما في تجاهلها.
هناك فجوة متبادلة بين المتحدث والمتلقي، الفجوة ليست موجودة اليوم فقط، لكنها موجودة منذ أزل، وما زلنا نحملها معنا إرثا قديما لا نرغب الخلاص منه.
ما يهمنا، هو الدفاع عن معتقداتنا وإن كانت آثمة. ما يهمنا هو مفهوم الأخذ بالثأر وإن كان الأمر مجرد اختلاف في وجهات النظر. لا يمكن أن يتخلى المتلقي عن أن يكون دوره مستمعا ومحكما رأيه فقط، دون أن يتطرق إلى سلسلة من الشتائم، أو إلى معايرتك إذا لم تفض قريحته بالشكل المطلوب، بامتهان خلقتك ابتداء من أنفك ولون شعرك منتهيا إلى اسمك ولقب عائلتك، يصل إلى هذا المستوى من الشتائم والقذف، حينما يصبح عاجزا عن مجاراتك، وكل هذا البؤس يحدث لعدم تمكنه من فكرة قبول الطرف الآخر بما لا يتوجب عليه تغييره.
هل تهمني الجمهورية التركية؟ شخصيا لا، هذه هي إجابتي، هل يعني لي رجب طيب إردوغان شيئا؟ لا، لكني أعترف أنني قرأت سيرة حياته قبل عدة أشهر، وأحببت الكتاب، وأحببت سيرة الرجل العبقرية، لكنه ليس قديسا حتى لا يمكن التطرق إلى بعض عيوب قراراته. لست هائمة به ولست متوحدة بشخصيته، ولكن ليلة الانقلاب حينذاك، كنت أمام شاشة التلفزيون وشاهدت كأي متابعة خبر الانقلاب، فاعتقدت لوهلة أن هذه هي إرادة الشعب، فدونت عبر حسابي الشخصي في "تويتر": "باي.. باي إردوغان"، ولم أطل طويلا في متابعة الأخبار، وتوجهت للنوم، وحينما استيقظت وجدت عددا من الشتائم في حسابي، وبدأت بعدها في متابعة وقراءة الأخبار، واستوعبت أن الشعب يرفض تماما الانقلاب العسكري، فقمت على الفور بحذف التغريدة، الأمر ليس مهما لهذه الدرجة، لم أصل بعد لأكون أحد أعضاء البرلمان التركي، حتى يشن عليك البعض حربا ضروسا لأنك كتبت "وداعا لإردوغان"!
طبعا مَن شنّ الحرب هم من السعوديين الذين أثارهم أن يكون هناك من هو ضد إردوغان، لا أحد يمكن أن يقنع البعض أنه ليس هناك قانون يدعي بحكم الوصاية على أفكار الآخرين ورؤيتهم، طالما لا تمسهم شخصيا.
المجتمع العربي يحب كثيرا أن يعيش في جلباب الوصي، لكنه في مقابل ذلك لا يود أن يقوم بأي عمل تجاه ما يمكن أن يكون محركا ونافذا وفاعلا، فكل ما يريد أن يعيشه هو الدور الأسهل والأكثر عنفا وحزما وطغيانا، أن يشتم رأيك ويدفع الآخرين لمؤازرته ودعمه والوقوف معه في ذات الخانة التي اختار فيها أن يكون الجميع مع أفكاره ومعتقداته، وتحت وصايته المقدسة بالنسبة له، غير مدرك لأهمية وضع المسافة أبدا بينه وبين المتحدث.
خرج الشعب ثائرا ضد الانقلاب الفاشل في تركيا، متّحدا مع الرئيس الذي طلب منهم المشاركة ضد الجنود الانقلابيين في الشارع، بعدها زادت حماستي لمراجعة خطب الرئيس إردوغان القديمة، وبدأت في قراءة ما قدمه من إنجازات مذهلة، إذ قاد دولته إلى منطقة تتجلى فيها المسؤولية الحقيقية لأي مسؤول، ولكن يبقى إردوغان الذي كان يريد أن تكون الحكومة وصية على الشعب من حيث استخدام مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، يأتي اليوم الذي يستفيد هو شخصيا من خدمات الـ"سوشل ميديا"، حينما بعث بمقاطع فيديو مصورة عبر الـ"فيس تايم"، وعبر الرسائل النصية يحث فيها الشعب التركي على محاربة الانقلابيين من العسكريين.
الأوصياء في وسائل التواصل الاجتماعي، شعروا بأن الليبراليين في السعودية هم الأكثر حزنا على فشل الانقلاب، ولا أعرف كيف تسنى لهم التفكير بهذا الفكر الأعوج، وكيف استطاعوا أن يتبنوا مثل هذه الأفكار، إذ إن الجمهورية التركية ما تزال علمانية رغم أن إردوغان وصل إلى سدّة الحكم عن طريق حزب العدالة والتنمية، الذي تساور الأتراك العلمانيين الشكوك بشأن ميول الحزب الإسلامية.
أستطيع أن أتفهم محاكمة أي تركي لي فيما يتعلق بتغريدتي التي كتبتها، لكن ما شأن السعوديين بشتمي وفتح محاضر للتحقيق معي بسبب تغريدة عن إردوغان؟ هذا ما ظللت أفكر فيه، وأنا ما أزال حتى الآن أتلقى الصفعات والإهانات، بسبب تغريدة تمت إزالتها بإرادتي الشخصية.
أدرك المشاعر الوجدانية لكثير من العرب تجاه إردوغان، وحينما تقرأ سيرته بشكل ناضج، رغما عنك ستسقط في فخاخ رؤيته التقدمية، ونظرياته التي حققت نجاحا لافتا لتركيا، لكنني لا أفهم الحمية والوصاية من السعوديين نحو وجهات النظر التي لا تشبههم.