(بل جوي) أحد رواد التكنولوجيا والباحث الكبير في مجال التقنية وصاحب البرنامج الشهير (جافا) الواسع الاستخدام من قبل البنوك والشركات قال في بحث طويل ومهم: "المستقبل لا يحتاجنا" في إشارة إلى خبراء التقنية. حذر هذا العالم من مواجهة مد العالم الرقمي، ونصح بمصالحته بدلا من مواجهته، وقال إننا لا نستطيع مواجهة العولمة. والأفضل أن نتصالح معها رغم ما فيها من مخاطر. ومخاطر العولمة على الشباب تحديدا كبيرة من أهمها أنها أصبحت المصدر الأهم لفكرهم وما يترتب على ذلك من أفكار سلبية تنعكس على حياتهم وأوطانهم والعالم أجمع. والأمثلة على ذلك كثيرة وليس هنا مجال الحديث عن هذا الموضوع المهم وإنما نتطرق إلى مصالحة العصر فيما يتعلق بالتعلم والتعليم.
دعوني أضرب لكم أمثلة من الواقع وأثبت لكم أهمية أن نبدأ في البحث عن طرق وأساليب للاستفادة من مواقع التواصل الاجتماعي في التعلم والتعليم، وأننا قد نضطر إليها، ولهذا يجب أن نبدأ من الآن عملية البحث في هذا الموضوع حتى لا نندم على التأخر. المثال الذي أستشهد به هنا هو أن أطلب من كل واحد منكم أن يعطي ابنه أو ابنته الشابة نصا قصيرا لا يتجاوز بضع صفحات ويطلب منه أو منها قراءته ثم ينظر إلى وجهه أو وجهها كيف سيتجهم من ثقل ما كُلف به. السيناريو الذي ستواجهه هو ما يأتي: الغالب أنه أو أنها لن تقرأه، أو ستقرأه على مضض. وإذا سألته أو سألتها عن المحتوى قد لا تجد الإجابة، حيث تمت قراءته بسرعة ودون تركيز، وإذا تمت قراءته فافعل ذلك مرة أخرى ستجد سيناريو أكثر ضراوة وتسويفا وربما لا تجد استجابة. وافعل ذلك مرة ثالثة وسترى العجب. والأمر سيان لا يهم إن كان النص على ورق أو كان النص رقميا، الأمر لا يتعلق بنوعية النص رقميا أو على الورق. إذن أين المشكلة؟
المشكلة تشكلت من الثقافة التي تم تشربها من قبل الشباب في الكتابة والتلقي لنصوص لا تتعدى 140 حرفا، كما هو الحال في "تويتر" مثلا وفي مشاهدة وإرسال فيديوهات لا يتعدى وقتها 15 ثانية كما هو الحال في "سناب شات". هذه الثقافة شكلت وعلى مدى فترة طويلة ارتياحا منقطع النظير للتفاعل والأخبار والإخبار والتواصل وأدت إلى ضمور الرغبة في التعلم والأخبار والإخبار فيما سوى هذه الأدوات. وانتقل هذا الضمور إلى المدرسة، فأزعم (وهنا نعود إلى ما دعوت إليه لعمل دراسات وأبحاث) أن الطلاب والشباب بشكل عام لم يعودوا يطيقون الكتب المدرسية أو قل لم يعودوا تحمل النصوص الطويلة، سواء كانت ورقية أو رقمية. فما العمل؟ العمل أن نعود إلى نصيحة (بل جوي) بأن لا نواجه العصر. بمعنى ألا نفرض على الطلاب بالقوة أن يقرؤوا نصوصا طويلة، وإنما نبحث وندرس بشكل علمي كيفية مصالحة العصر في هذا الجانب.
يقول نعوم تشومسكي عالم اللغويات والباحث السياسي اليهودي المشهور في موضوع التواصل الاجتماعي، إنها شر يجب تحويله إلى خير، وفيما يتعلق بمجالي التعلم والتعليم ينبغي أن نضع المواد التعليمية في كبسولات لا تتعدى 140 حرفا وفيديوهات لا تتعدى دقيقة واحدة على سبيل المثال. هنا نتصالح مع العصر. وهنا نجاري الثقافة التي تشكلت لدى الشباب، وهنا ننجح في تسخير العصر الرقمي ومصالحته ليخدم أهدافنا بتحقيق تعلم من جانب الشباب وتعليم من جانب المؤسسات التعليمية. هذه ليست مثالية، إنها ضرورة تحتم علينا الإسراع ومسابقة الزمن للتصالح مع العصر.
لن نستطيع صرف النظر عما يجري حولنا من تشكل ثقافة التلقي والتواصل عن طريق نصوص لا تتعدى 140 حرفا أو فيديوهات لا تتعدى 15 ثانية. إنها هجمة العصر الرقمي الشرسة التي لا بد من مصالحتها وعدم التصدي لها لأنها ستهزمنا بلا شك. الحل في الإسراع لعمل دراسات لضغط عمليات التعلم والتعليم في كبسولات سريعة نستطيع بها مجاراة العصر، ونستطيع بها مسايرة الثقافة التي تشربها الشباب على مدى فترة طويلة من الزمن. لا مجال لصد فكرهم وتحقيق تعلم فاعل من قبلهم، وتعليم فاعل من قبل مؤسسات التعليم إلا بمجاراة العصر ومسايرته، وإلا كان تعلمهم وتعليمهم في واد وهم في وادٍ آخر. أقترح عمل دراسات لأن المؤشرات باهتة ولا تفاؤل فيها إن استمر تجاهل ما يفعله العصر الرقمي في عقول شبابنا ونحن نصر على البقاء كما كنا. لا بد أن نعيد تعريف التعلم والتعليم، وتعيد المدرسة تعريف نفسها لتساير العصر الرقمي، وإلا فلتستعد للمواجهة غير المتكافئة التي سيكون مصيرها الهزيمة. أرجو أن تكون الرسالة واضحة.