اللهم إني لا أدّعي أني بالسياسة ودهاليزها خبير، ولا أزعم أني من المحللين السياسيين في قليل ولا كثير، غير أني إنسان عاقل بالغ مسلم حرٌّ، توافرت في شروط التكليف بالمعنى الفقهي، وأنا عند المناطقة جسم، متحرك بالإرادة، مغتذٍ، حساس، ناطق!

وإذ اتفق في العبد الفقير شروط التكليف التي أوّلها العقل - فالعقل مناط التكليف - وإذ اتفق في هذا المسكين – الذي هو أنا – تعريف المناطقة للإنسان، فلي إذن – على الراجح – عقل، ومشاعر وأحاسيس، وأنا قادر على التفكير والنطق، ثم بعد هذا، يأتي منّي الخطـأ والصواب.

أعترف، بكامل قواي العقلية والنفسية، أني لمّا أصحّحْ أوقات منامي وقيامي جرّاء رمضان – تقبله الله مني ومنكم – حتى لحظة كتابة هذه الكلمات. أنام بعد العشاء مباشرة، وأغتدي والطير في وُكناتِها، كما قال الملِك الضِّلِّيل امرؤ القيس، فعل الله به ما شاء.

وقد نمت – والحالُ ما أوضحته لكم – ليلة الانقلاب باكرًا جدًّا، ثم استيقظت باكرًا جدًّا فإذا رسائل الواتس أب، وإذا تويتر، وإذا الفيس بوك، وغيرها من المواقع تغلي غليانًا بنبأ عظيم؛ انقلاب في تركيّا! وأنا بين مصدّق ومكذّب، ثم تتابعت الأخبار بفشل الانقلاب، والقبض على رؤوسه والمشاركين فيه. أما تويتر فضجّ بالحروب الكلاميّة بين الفرقاء المؤيدين والمعارضين. وكان داعيًا إلى الشفقة من طار من شدّة الفرح ظانًّا أن الانقلاب الغادر نجح أو في طريقه إلى النجاح، فزاد في فرحه عن الحدّ! وتعجّل ثمراتٍ مرّة، الحمد لله أن لم تكن، فضلاً عن أن تنضج؛ فلقد نجا عالمُنا من ازدياد أعداد المنتسبين إلى حركات العنف الذين كانوا سيلتحقون بداعش وغيرها في الليالي الماضية ولله الحمد والمنّة. وهذا وحده خبرٌ سارٌّ، يجعلنا نحمد الله كثيرًا على فشل هذا الانقلاب. والانقلاب على الحكومة الشرعيّة المنتخبة في بلد ديمقراطي غدرٌ من الغدر، وظلم من الظلم، ما في ذلك ذرّة من شك.

فكل إنسان يملك ذرّة من أخلاق، وشيئًا من مبادئ، لا يمكنه أن يوافق على غدر، أو يرضى بغدرٍ، وليس الغدر من صفات المؤمنين.

لا أخفي سعادتي الكبيرة جدًا بانتصار الشعب التركي على الانقلاب؛ ذاك أن المبدأ يقتضي هذا. وقف الشعب التركي الشقيق صفًا واحدًا أمام هذا الانقلاب الآثم، مؤيدو الحكومة، والمعارضون معًا، لم يكن همّهم انتصار حزب على حزب، ولا فئة على فئة بأي ثمن، بل كان الهمّ الجامع انتصار الديمقراطية، انتصار الشعب وخياره، وهذا درس عظيم من دروس التاريخ، رأيناه بأعيننا، ولم نقرأه في الكتب، وسيصبح غدًا خبرًا من الأخبار التي تروى في التاريخ، شهدناها – نحن أبناء هذا العصر – شهود عيان، وستعلمها الأجيال القادمة، برواية الآباء، وبتضمينها في كتب التاريخ.

لكنّي في غمرة السعادة بانتصار الشعب التركي، ووقوفه بقوّة مدافعًا عن حقه في الاختيار، وعن شرعيّته في الانتخاب، وعن حياته والإدارة التي اختارها، وجدت من الناس من كان همّه – كل همّه – انتصار شخص ونظام وإدارة بعينها. جعلها أولًا، ثم الشعب وانتصارُه في المحلّ الثاني!، من حقّه أن يفرح بلا شك، ولكنّه فرحٌ غير ناضج، فرحٌ خداج قاصر النظر.

إن الرئيس التركي – إردوغان –  رئيس كسائر رؤساء العالَم، له حسناته، وله أخطاؤه. اللهم لا أخفي أنه رمز قياديّ كبير، ومن المكابرة أن ينكر أحد ما بلغته تركيا بعد حزب العدالة والتنمية، ومن الإجحاف أن يُجحَد ما فعلته تركيا في فتح أبوابها للمهاجرين السوريّين، وما تقدمه لهم كل يوم، هذا ما لا ينكره إلا مكابر، ولسنا بحمد الله من المكابرين.

سيحكم الرئيس إردوغان ما شاء له الله أن يحكم، ثم سيأتي غيره، وسيصبح في ذمّة التاريخ، شأنه شأن غيره من الحكّام المسلمين. لكنّ الشعب سيبقى.

كل هذا الذي قلتُه حتى الآن كلام رجل عاديّ، عامّيٌّ أشد ما تكون العاميّة في السياسة، غير أن هناك ما يجعلني أتحيّر، لا في إردوغان، فهو رئيس لبلد انتخبه شعبها، يعمل من أجل بلده ومصلحتها، وليس في هذا ما يحيّر أخطأ أم أصاب. بل في من أراه لا يحتمل في حق غردوغان ما لا يصل حتى إلى درجة الانتقاد فضلًا عن الانتقاد!

ما أعلمه من ديني أن المعصوم من عصمه الله، وأنه لا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم في هذه الأمّة، وأن الدفاع عن الباطل باطل، وأن الولاء المطلق لا يكون إلا لله تعالى، وهذا ما يحملني على أن أسأل: ما حكم التطبيع مع إسرائيل شرعًا؟ أحلالٌ هو أم حرام؟ ما حكم الاتجار مع كيان غاصب يأكل أموال بلدٍ احتلّه، وهو يعلم أن ما يتّجر به هو من المال الحرام؟ وأن في تطبيع علاقته معه تثبيتًا له ولكيانه، ومعاونةً له على الظلم؟

إذا كانت تلك الأمور المسؤول عنها حرامًا، أفهي حرامُ على كل أحد؟ أم حرام على أحد، وحلال على آخر؟

وإذا كانت تلك الأمور المسؤول عنها حلالًا فلم لا تقبل من فلان وفلان أيضًا؟ وإذا قبلت من فلان – بحكم السياسة والموازنات – فلم لا تقبل من غيره للعلة ذاتها؟ أم أن العلّة هي العلم بما في الصدور، مما لا يعلمه إلا الله تعالى؟!

أم أن الأمر كما قال الشاعر الأوّل:

ويقبح من سواك الفعلُ عندي .. فتفعلُه فيحسن منك ذاكا؟

إنها أسئلةٌ تحيّرني، أبحث لها عن إجابات شافية، أسئلة كائن مكلّف شرعًا، لا يدّعي أنه بالسياسة خبير، ولا يزعم أنه من المحلّلين السياسيّين في قليل ولا كثير.