إذا صنفنا الإرهاب، وبغض النظر عن رفضه، بأنه نوع من حروب العصابات، فإن هذا النوع من الحروب يأتي لتنفيذ أهداف محددة، كما يستهدف خصوما محددين أيضا. ومن غير ذلك يصبح المشروع الإرهابي عبثيا، وعدميا.
حروب العصابات، هي في جوهرها، مواجهة قوة صغيرة، بأدوات محدودة لجيش نظام يفوقها في العتاد والعدة، وفي الأفراد. وفي هذا النوع من الحروب، تستخدم العمليات الخاطفة، وفي مواقع لا يتحسب لها الخصم. لكنها في النهاية تهدف إلى زعزعة قوته، وإضعاف شرعيته. وعلى رأس أولويات قادة هذه الحركات هو الاحتفاظ بالعنصر البشري التابع لها وعدم التفريط فيه. ولذلك تجري عمليات تدريب وإعداد كبيرة للمقاتلين، يكون على رأسها التدريب على المبادأة والمناورة والإقدام والتراجع. وأيضا على أنواع الأسلحة التي تستخدم في العمليات العسكرية التي يفترض فيها أن تكون خفيفة ودقيقة، وقابلة لحملها باليد.
هكذا كانت معارك حروب العصابات، يمينية ويسارية على السواء.
لكن الظاهرة الجديدة التي ابتدعتها قوى التطرف، من القاعدة و"داعش" وأخواتهما، نقلت هذا النوع من الحروب إلى مستوى مختلف جدا.
فالعمليات التي تشنها هذه الجماعات هي في غالبيتها عمليات انتحارية تنتهي بمصرع المقاتل. والأهداف المستهدفة ليست بالضرورة أهدافا عسكرية، بل أماكن التجمعات البشرية. ولذلك يصعب على المتابع تفسير أهداف هذه العمليات. وليس من وسيلة لمعرفة الدوافع التي تقف خلف هذه العمليات الإرهابية إلا بقراءة أوضاع المنطقة عموما، ووعي الأجندات المشبوهة المطروحة لتفتيت المنطقة، واعتماد التحليل السياسي، في قراءة ما يجري.
لتأخذ على سبيل المثال العمليات الأخيرة التي حدثت في المملكة، الأولى منها وجهت نحو القنصلية الأميركية، والثانية نحو مسجد في القطيف، والثالثة نحو المسجد النبوي.
بقراءة معمقة، يمكننا القول إن الهدف الرئيس خلف هذه العمليات هو إحداث ارتباك ومحاولة زعزعة أمن واستقرار البلاد. ولكل من الأهداف المنتقاة غاية محددة. فالأول، يتعرض للسفارات الأجنبية، والثاني للسياحة الدينية، والثالث، يحمل مشروع تعبئة طائفية. وجميعها تهدف إلى إضعاف هيبة الدولة وترهيب المجتمع، وتشتيت فعالية الأمن.
جامع مشترك آخر، بين هذه العمليات، أنها جميعا لم تستهدف موقعا عسكريا، أو مركزا إستراتيجيا للدولة، ليس لأن ذلك خارج أهداف الإرهاب، بل لأنه يتطلب نوعا من الاستعداد والمباغتة والمهارة والدقة، لا يتوافر لدى المخربين.
ما نعنيه بذلك عن تغير جديد حدث في إستراتيجية الإرهاب، هو أنه ليس هناك من حاجة لإعداد نفسي وعسكري، بحيث تكون هناك حاجة للقيمة البشرية والإنسانية. فكل ما يلزم الأمر، هو وضع أحزمة ناسفة، في جسد الانتحاري.
ولذلك يمكن تجسيد ما يسلكه هؤلاء القتلة، بأنه أقرب إلى الهستيريا الجماعية، حيث يتم غسل الأدمغة، وتجويفها، وتوجيهها جميعا نحو اتجاه واحد لا غير، هو القتل والتدمير، ونشر الفوضى والخراب في أرجاء المعمورة.
إنها بشكل مختصر، ثقافة الموت تحارب الحق في الحياة والخير والجمال، والتنمية والبناء.
وفي هذا السياق، نرى تشابها كبيرا بين الحوادث الإجرامية الأخيرة، فهي ليست سوى حلقة في سلسلة طويلة، طالت مؤخرا، بلدانا عربية وإسلامية أخرى، شملت بغداد وإسطنبول وبنجلاديش والقاع في الأردن، وتم تنفيذها في الغالب، بالطريقة ذاتها، وهي الأحزمة الناسفة.
بالتأكيد، تختلف إستراتيجيات الإرهابيين في العراق وسورية وليبيا والصومال ومالي. ففي هذه البلدان تمكّن الإرهاب، من إيجاد قواعد آمنة له، واحتل أجزاء كبرى من تلك البلدان أسس عليها إماراته. ولكن ذلك لا يلغي أن الجامع المشترك بين هذه الجماعات هو احتقار الحياة والكرامة الإنسانية، والتفريط بسهولة في أرواح الجماعات المرتبطة بتنظيمات الإرهاب.
ففي كل حدث إرهابي، هناك شهداء وضحايا ومصابون، ودمار وخراب. تحول الإرهاب، منذ مطالع هذا القرن، إلى ما هو أقرب إلى حرب عالمية، لا تستثني من أجندتها أية زاوية من زوايا الكرة الأرضية، ولا تستثني أحدا من مخططاتها، بما يفرض على المجتمعات الإنسانية، ألا تقف عند حد المؤازرة اللفظية، واستنكار الحدث، بل الانتقال إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير.
فما هو مطلوب في هذه المواجهة يجب أن يتخطى لغة أضعف الإيمان، ذلك لأن أمن الجميع مهدد بالخطر، كلما استفحلت هذه الظاهرة. فهي تضرب الجميع بشراسة، ونتائج تخريبها تدمير أوطان وتذويب هويات. وهي من غير شك، تهدر جهود المجتمعات، وتدمر اقتصاداتها، وتعوق نموها وتطورها، وتحجب عنها الاستقرار والأمن والسلام.
في حادث نيس بفرنسا، هناك تطور خطير جدا، حيث تمت العملية التخريبية من غير سلاح ولا متفجرات، ولم يكن الانتحاري بحاجة إلى أي نوع من التدريب العسكري. كل ما احتاجه هو شاحنة كبيرة يقودها، وسط تجمع بشري يحتفل باليوم الوطني الفرنسي، يدخل في جموعهم، فتتحول الأجساد المتقدة فرحا وحيوية إلى أشلاء.
إن المجتمع الدولي بأسره، أمام تحول خطير في مسار الإرهاب، لا تكفي فيه المواجهة المباشرة، بل لا بد من عمليات استباقية مكثفة، تستهدف شخوصه وقواعده وأوكاره، وهي ليست معركة سلاح فقط بل معركة فكر أيضا.
لا بد من مواجهة دولية شاملة للإرهاب، فكرية وعسكرية، تضيق الخناق على مجموعات التطرف حيثما وجدت، وتدمير جميع الأوكار التي تلجأ إليها في آن معا، والتصدي لأسباب الفوضى، وغياب الأمن وبشكل خاص في البؤر المتوترة، التي غالبا ما تكون أماكن أثيرة لتمركزها. ولعل هذه الخطوة العملية هي السبيل لملاحقة الإرهاب وكبح جماحه.