تثبت أحداث تركيا أن الشعوب العربية قد دخلت منذ زمن غير يسير في نفق التحزب والانقسام، وما يجره ذلك الاصطفاف من نقاش وجدال، فخصام على قاعدة: إن لم تكن معي فمعناه أنك ضدي، وعليه فإنك بالتالي "إخونجي"، وإن كان هو في الطرف الآخر فلا شك أنه علماني.

وهكذا صرنا إلى فسطاطين ينازع أحدهما الآخر، والواضح أن هذه الشعوب المنقادة إلى جادة الانحياز المتطرف، إنما تبحث في صراعها عن قدوة أو رمز يحتذى ويتبع، ولهذا تجد أن العربي في ظل هذا التوهان صار يبحث له عن رمز ليصفق له ويمجده، ومن هنا اضطر البعض في وقت مضى إلى تمجيد وتضخيم رمزية "حسن نصرالله" حتى اكتشف هذا البعض أنها رمزية كاذبة خاطئة.

ومن جديد، احتدم النزاع بين العرب، سواء بين نخبهم أو عوامهم، وذلك مباشرة أثناء محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في تركيا، فقد حدث الاصطفاف العربي كالعادة، وبدأ التناحر بين مؤيد وآخر معارض، والغريب أن التعصب قد وصل مبلغه ومنتهاه عند البعض، ولو كان ذلك من العوام لربما كان ذلك مبررا لكن "التعنصر" والتحزب قد وصل ذروته لدى كثير ممن هم محسوبون على قائمة المثقفين الذين يفترض بهم أن يكونوا أول المعارضين والمنددين والرافضين لأي انقلاب عسكري على اختيار الغالبية عبر صندوق الانتخابات.

كيف لا، وهم يعلمون حجم الفرية والمصيبة التي أصابت العالم العربي بسبب حكم العسكر، وبسبب الانقلابات العسكرية التي جاءت في معظمها على حكومات ملكية مستقرة، ثم -وكما هو مشاهد- أذاقت شعوبها ويلات الانكسار الاجتماعي والمعيشي والتعليمي، ولتكن مصر عبدالناصر نموذجا لما حدث في مصر التي خسرت تباعا في حروبها وأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، والحال كذلك مع الدول التي تبعتها في انقلاباتها العسكرية، كما هو الحال في سورية والعراق وليبيا واليمن وغيرها.

والغريب، أن هذه النماذج العسكرية واضحة وجلية في عنفها وسوئها، ولا تحتاج إلى ذي بصيرة ليدرك أنها سبب انتكاسة العالم العربي، ووصول دوله إلى أوضاعها الحالية.

فلماذا بعد كل هذا ينحاز النخبوي أو المثقف المستنير إلى الانقلاب العسكري في تركيا؟

أظن أن الجواب يكمن في أن الصفات والتصنيفات التي نطلقها على بعض المثقفين، إنما هي من باب إلباس بعضهم ألقابا لا تشبههم، ومن باب خلع الصفات التي ليست مثلهم، وأجزم أن مجرد ابتعاد بعض هؤلاء عن بعض "السمت" الديني الشائع، هو الذي جعلهم يكتسبون هذه الألقاب، لكنهم في واقع الأمر متحزبين، وحالهم في ذلك كحال مخالفيهم، وجميعهم للأسف يبالغون في الانحياز، ثم يبالغون في الاختلاف، ثم الخلاف، لأن الأمر عند كلا الطرفين قد تحول إلى عقيدة لا تقبل النقاش ولا الأخذ والرد، ولا تسمح بالتنازل في حال ظهر لأحدهما خلاف ما يعتقد.

وأظن أن العالم العربي سيتحسن كثيرا بعد أن ينقرض هذا النوع من المتحزبين العرب، سواء من المحافظين أو الليبراليين.